تكاثرت في السنوات الأخيرة، وخصوصاً في العقد الأول من القرن الحالي، عروض رواية أوبرالية تدعى "نبوكو" (اختصار اسم نبوخذ نصر)، وضع موسيقاها الإيطالي جوسيبّي فيردي، وكتب كلمات نصّها الأوبرالي تيميستوكلي سوليرا، وعُرضت لأول مرة في العام 1842 في دار أوبرا "لا سكالا" في ميلانو.
هذه العروض لم تترك جمهوراً غربياً من دون أن تعرّفه بنفسها، فطافت في أشهر دور الأوبرا المعروفة. والمثير في أمر هذه الرواية ليس أنها تختلق أحداثاً تضاف إلى روايات توراتية عن سبي اليهود إلى بابل فقط، فتجعل نبوخذ نصر يعلن نفسه ربّاً فتضربه صاعقةٌ سماوية وتصيبه بالخبل، وتتمرّد عليه ابنته، فيعلن إيمانه بإله التوراتيين، ويعمل على إعادتهم إلى مدينة تسميها "أورشليم".
بل يحدث أن يتخذها أصحاب اتحاد نفطي، أوروبي- أميركي - إسرائيلي - شرق أوسطي اسماً لخط أنابيب بترول وغاز يمر عبر تركيا إلى أوروبا من المخطط أن ينقل منتجات دول من أواسط آسيا ودول عربية مثل العراق ومصر إلى السوق الأوروبية لتخفيف اعتمادها على مصادر الطاقة الروسية. جرى هذا في العام 2009 حين وقّع أصحاب هذا المشروع اتفاقية بهذا الهدف، وشاهدوا عرضاً للأوبرا المذكورة في فيينا، فتبنوا التسمية، وصار اسم الخط "نبوكو".
هذه الرواية وما تختلقه في مخيّلة العالم، والغربي منه بخاصة، وتكرار عرضها طيلة ما يقارب 174 عاماً، إضافة إلى روايات وأعمال أخرى، أدبية وسينمائية هوليودية وموسيقية، تثير في الذهن جانباً بالغ الأهمية من الصراع العربي/الغربي، والجانب العربي/ الصهيوني منه بخاصة، نعني ذلك المسرح الذي يدور عليه الصراع بين روايتين؛ الاستعمارية والعربية، ويتم فيه التلاعب بالمخيلة الغربية وصياغتها في ظل غياب يكاد يكون مطلقاً للرواية العربية.
وفي ضوء استعراض بسيط للأعمال التي واجهت رواية المستعمرين، غربيين وصهاينة، نكتشف أن هناك تجاهلاً لوجود هذا المسرح، أو تقليلاً من أهميته، أو العجز عن الصعود إلى خشبته لسرد رواية عربية، لا نقول تتلاعب، بل ترسخ وقائع رواية تتعرّض للتشويه في الذهنية الغربية.
يحضر في الذهن عمل الأخوين رحباني الغنائي والموسيقي "راجعون" (1955)، وعمل الموسيقار الفلسطيني يوسف خاشو "سيمفونية القدس" (1967) وتتبادر إلى الذهن مسرحية المخرج الفرنسي ستيفان أوليفيه االمأخوذة من نص "أربع ساعات في شاتيلا" للكاتب جان جينيه، وكانت قد عُرضت في بيروت مرتين، وهي ذاتها العمل الذي قدمته الفنانة المغربية ثريا جبران في العام 2001.
كما تتبادر إلى الذهن مسرحية "اسمي راشيل كوري"، للصحافية البريطانية كاثرين فنر والممثل والمخرج البريطاني آلن ركمان، والمأخوذة من يوميات ورسائل المناضلة الأميركية الشابة التي سحقتها جرّافة الجيش الصهيوني في رفح وهي تحاول منعها من هدم بيت فلسطيني (2003) والتي عرضت في لندن في العام 2005، واتجهت النية إلى تقديمها في نيويورك، إلا أن المسرح النيويوركي قرّر تأجيل عرضها إلى أجل غير مسمى، أو الامتناع عن عرضها في الحقيقة، بحجة "مضمونها السياسي".
وكمثال، نسأل الآن عن هذه الأعمال، فهي على قلّتها، لم يتكرّر عرضها، ولم تستطع الوصول إلى الجمهور العالمي، أي إلى المسرح الذي يدور عليه الصراع على المخيلة والوجدان والعقل، بل ولا تعرفها حتى الأجيال العربية التي توالت بعد ظهورها، ولم يقيّض لها حتى أن تُعرض على نطاق واسع في أيام ظهورها لأول مرة.
وحين نسمع عن ظهور ناشطين ومناضلين غربيين ينتصرون لفلسطين، شعراء وكتاباً ومغنين وموسيقيين وسينمائيين، ألا نلاحظ تقصيراً في التعامل معهم وتقدير أعمالهم الفنية والأدبية؟ أليس بالإمكان توجيه أنظارهم ودعمهم لتقديم أعمال عالية المستوى، درامية وموسيقية وسيمفونية، تقدّم إلى الجمهور الغربي في مسارحه وبلغاته؟
الأغرب أن لدينا بالفعل أعمالاً موسيقية اكتسبت مكانة عالمية، إلا أنها تكاد تكون مجهولة في الأوساط العربية. وتقف على رأس هذه الأعمال منجزات يوسف خاشو المولود في القدس في العام 1927، والمتوفى في عمّان في العام 1997. يرى الموسيقي الأردني هيثم سكرية أن خاشو كان أحد أبرز مؤلفي القرن العشرين الذين صاغوا أعمالهم الموسيقية كتصوير للأفكار الدرامية، ولايقل في مستواه الفني والتقني عن غيره من مؤلفي هذا القرن، وله من الأعمال 14 سيمفونية تصويرية تعتبر في نظر الخبراء تراثاً إنسانياً وحضارياً ذا قيمة فنية لا يقل مستواها عن مستوى الأعمال العالمية.
والجدير بالذكر أن التلاعب بالمخيلة، أو استعمارها حسب تعبير الكاتب الأميركي جيمس بالدوين، ذو تأثير أعمق بكثير من تأثير الاستعمار المادي؛ أو الاستيلاء على الأرض، والسجن والتعذيب الجسدي والقتل، فكل هذه الأفعال هي بمثابة بناء على الرمال، ما دامت الضحية تمتلك الوعي والمخيلة الحرّة من أي قيد.