ينتقي بهروز وصبا بعناية، مرآة كبيرة وشمعدانَين فضيَّين لوضعهما أمامها في بيتهما الزوجي، وذلك من محلّ خاص ببيع هذه الحاجيات في منطقة سعدي الواقعة في مركز العاصمة طهران. ولعلّ هذه القطع هي الأكثر تميّزاً من بين كلّ ما يشتريه العروسان لتجهيز منزلهما المستقبلي، لذا يحرصان على اختيارها باهتمام بالغ.
صبا تعلم جيّداً ما يعنيه اقتناء هذه الأشياء بالنسبة إلى كلّ إيراني. تقول: "المرآة ترمز إلى النور". هو النور الذي تأمل أن يحيط بتفاصيل حياتهما. أمّا الشمعدانان، فهما حارسا عروسَي المستقبل، إذ تنعكس صورة الشمع داخلهما في المرآة ليرمزا معاً إلى النور والنار، أبرز العناصر التي ما زالت حاضرة في حياة الإيرانيين وثقافتهم منذ القدم.
عندما تسأل أيّ إيراني عن الأساطير القديمة، تجده يروي لك منها العشرات. الجميع يتحدّث عن فارق بين الأسطورة والخرافة، ويحفظ بعضها عن ظهر قلب، لا سيما تلك التي تخصّ أبرز الأعياد والمناسبات، مثل عيد رأس السنة الشمسية "النوروز"، أو "ليلة يلدا" وهي الليلة الأطول في العام.
السيدة جعفري من الذين يحرصون على إحياء كلّ عيد إيراني. وقد علّمت أبناءها القيام بالأمر نفسه منذ الصغر. "لم يكن ذلك صعباً" بحسب ما تقول، "فالجميع في إيران يقدّر تاريخ البلاد وحضارتها وما وصلهم من إرث ثقافي، حتى وإن تغيّرت طقوس عدّة مع مرور الزمن".
من جهتها، تتفق سارا وهي طالبة جامعيّة مع زميلها علي رضا على أنّ "إحياء الأعياد مع الاحتفاظ ببعض طقوس بلاد فارس القديمة أمر يحفظ الهوية الإيرانية". وترى "وجوب تصحيح المفاهيم لدى البعض، خصوصاً لدى الذين يروّجون أنّها خرافات، في الخارج". ويؤكد زميلها على أنّ "شرح الرموز مهمّ لتحقيق فهم أقرب لطبيعة حياة الإيرانيين. لكلّ شعب موروثه ومن واجبه الحفاظ عليه".
في 21 مارس/ آذار من كل عام، يحتفل الإيرانيون برأس السنة الشمسية، عند الانقلاب الربيعي، فيكون "النوروز" أي "اليوم الجديد" بالعربية. وهذه المناسبة هي أبرز ما حفظ جيداً منذ القدم، منذ آلاف السنين بحسب ما تنقل الروايات والقصص التاريخية. يُذكر أنّه لطالما كانت الطبيعة العنصر الأكثر تأثيراً في حياة الإيرانيين، إذ إنّ مناسباتهم بمعظمها وحتى يومنا هذا، ترتبط بالطبيعة، وأساطيرهم مبنيّة على عناصرها من نار وماء وتراب وهواء.
ولمّا كان الإيرانيون يعتنقون الزرادشتية قبل 3500 عام، وهي أقدم الديانات التوحيدية التي ظهرت في بلاد فارس، كانوا يحتفلون بحلول الربيع، إذ إنّ النور والشمس والدفء تعني الخير. وتقول إحدى الأساطير بأنّ الإنسان ولد على الأرض في يوم النوروز.
قبل سنين طويلة، زرع الإيرانيون النباتات خصوصاً الحبوب والبقوليات استعداداً لهذه المناسبة، فالأسطورة تشير إلى أنّ ذلك يزيد الجمال والخضرة، بالتالي يزيد البركة والسلامة. وهذا ما يفعلونه اليوم، حتى وإن اقتصر الأمر على زرع حبوب العدس أو القمح في أطباق صغيرة في المنزل. كذلك كانوا يرشّون على بعضهم الماء في طقس يرمز إلى الطهارة قبل بدء العام الجديد. واليوم، يحرصون على رشّ البيوت بالماء وتنظيفها جيداً، ليس بهدف استقبال ضيوف العيد وإنما إحياءً لطقس الطهارة قبل الربيع فصل الحياة والتجدد.
أمّا النار، فلا تغيب عن الاحتفالات كلها. تبدأ احتفالات النوروز بإحياء يوم الأربعاء الأحمر، وهو الأربعاء الأخير من كل عام شمسي. في الماضي، كانوا يشعلون النار لأهميتها في الديانة الزرادشتية، ليس لأنّهم كانوا يعبدونها بل لأنّ النور يمثّل إله الخير. حتى يومنا هذا، وعلى الرغم من أنّ الإسلام دخل إيران قبل مئات السنين، بل وباتت البلاد جمهورية إسلامية في أواخر سبعينيات القرن الماضي، إلا أنّ النار تشتعل مع حلول كل عام جديد. النار هي رمز الحكمة والطهارة، وحتى مع اختلاف معاني الرموز وتفاصيل الطقوس في وقتنا الراهن، إلا أنّه يُلحَظ اهتمام الجميع بإحياء الثقافة ذاتها، المرتبطة أساساً بالأساطير.
عندما تدخل إلى منزل إيراني في هذا العيد، تجد "سفرة السينات السبع" حيث وضعت سبعة أشياء يبدأ اسمها بحرف السين. لكلّ منها رمزها الذي يرتبط كذلك بأساطير قديمة. منها ما يرمز إلى الجمال والصحة والسلامة والرزق وغيرها. أمّا السمكة الحيّة، فهي الضيف الأهم في كلّ ربيع. كيف لا، وهي رمز الحياة؟!
لا ينتهي الأمر هنا، إذ إنّ الإيرانيين يخرجون في اليوم الثالث عشر من العام الجديد إلى البساتين والأماكن المفتوحة. هذا طقس عمره آلاف السنين، يُقال إنّه يرتبط بخرافة الخوف من جلب النحس في العام الجديد. كذلك يربطه البعض بأسطورة تتعلق بالطبيعة. فاليوم الثالث عشر هو يوم إله المطر "تير"، وكان القدماء يخرجون لفتح قنوات المياه في الحقول حرصاً على وصولها إلى الزرع كله. وكانوا يستجدون هطول المطر، لكي يكون الربيع كريماً معهم.
في هذا اليوم، يخوض إله المطر معركته مع إله الجفاف. أمّا في ليلة يلدا، فيخوض إله النور معركة مع إله الظلام. توافق هذه الليلة في 21 ديسمبر/ كانون الأول، ويحرص الجميع على إحيائها حتى يومنا هذا على الرغم من اختلاف بعض من المعاني والمفاهيم. تعود طقوس يلدا إلى أربعة آلاف عام، فينتظر الجميع شروق الشمس التي تنبئهم بانتصارها على الظلام في ليلة هي الأطول والأشدّ عتمة. ويتناول الإيرانيون كلّ ما هو أحمر اللون في هذه الليلة، فيأتي البطيخ والرمان على رأس المادة. هذا اللون يرمز إلى لون الشفق المنتظر بعد ولادة الشمس من جديد في ليلة ترتبط كذلك بإلهة المحبة "ميترا".
من جهة أخرى، كان زرادشت الشخصية الأكثر تأثيراً في إيران، بحكم أنّه حمل الديانة التوحيدية الأولى التي اعتنقها الإيرانيون القدامى. ومفاهيم هذه الديانة كانت جزءاً هاماً من حياة الإيرانيين الاجتماعية التي تطوّرت بطبيعة الحال متأثرة بالتغيّرات التاريخية. هذا ما تؤكده الباحثة في العلوم التاريخية والاجتماعية الدكتورة كتايون مزدابور. بالنسبة إليها، "ثمّة ارتباط واضح بين حياة الإيرانيين اليوم وبعض المفاهيم الأسطورية التي ما زالت حيّة". تضيف مزدابور أنّ "الرسومات والطقوس في الاحتفالات والمناسبات الإيرانية ما زالت تحمل نَفَس الأساطير القديمة المرتبطة بعناصر الطبيعة خصوصاً". وتشدّد على "عدم إمكانيّة فصل ثقافة وحضارة أيّ بلد يملك تاريخاً طويلاً، عن حياة شعبه اليومية والاجتماعية بسهولة. الإيرانيون غيّروا عبر الزمن بفعل عوامل كثيرة، شكل أساطيرهم، ولم تعد جزءاً من قناعاتهم وإيمانهم. لكنّهم حافظوا على مفهومها بالمجمل. لا يتداولونها كأساطير، بل تنعكس في مراسم المناسبات الإيرانية وطقوسها. فهي جزء من تاريخ عريق، لا يمكن لشعب الاستغناء عنه".