نار البوعزيزي وقشّ الأنظمة

18 ديسمبر 2014

سبقت حادثة موت البوعزيزي حوادث كثيرة مشابهة في تونس(Getty)

+ الخط -

لم يكن محمد البوعزيزي يدري يوم 17 ديسمبر/كانون الأول 2010 أنه سيصنع، بإقدامه على إشعال النار في جسده، حدثاً تاريخياً فاصلاً. والمفارقة الغريبة أنه لم يكن واعياً بأهمية الحدث نفسه، ولم يكن مشاركا فيه، أو من الذين عايشوا الأحداث اللاحقة عليه. وأهمية هذا الحدث التاريخي لا تكمن في لحظة حدوثه، وإنما في ما ترتب عنه. أي أنه ليس مجرد الفعل الذي أصبح ماضياً، وإنما هو مطلوب أن يقع في المستقبل، أي الأمر الذي نطلبه، لأنه غير معطى، أي ما هو موضوع طلب لأن المعنى المهم الذي يكتسيه ما أقدم عليه البوعزيزي لا يتحدد إلا في ما لم يقع بعد حينها، أما ما وقع فلم يعد موضوع رغبة وتطلع، لأنه أصبح من قبيل الحاصل والواقع.

ولمزيد من التوضيح، سبقت حادثة موت البوعزيزي حوادث كثيرة مشابهة في تونس، وربما في غيرها. ولكن، تكمن مفصلية اللحظة التي اصطنعها البوعزيزي في أنها فتحت الباب واسعاً لمحاسبة ممارسات سلطوية استبدادية، ظلت تطبق على رقاب شعوب بأكملها. فالشعب التونسي ظل يتطلع طويلاً إلى لحظة تغيير حقيقي لبنية السلطة، ومراجعة منطق الممارسات القمعية التي كانت تستمتع الدولة البوليسية باقترافها، بدعوى حماية الدولة. وجاءت ثورة الشعب لتعبر عن رغبة كامنة في الحرية، وجدت فرصتها لتعبر عن ذاتها في صورة حراك شعبي واسع. فبين 17 ديسمبر/كانون الأول 2010 و14 يناير/كانون الثاني 2011، وهي لحظة فرار رأس النظام، كانت تعبيراً عن المكبوت الشعبي الذي ظل طويلاً يحاول أن يعبر عنه علناً، وهو أنه ضاق ذرعاً من استمرار نظام الحزب الواحد، والحاكم المطلق، ومنظومة الفساد.

كان هروب بن علي (14 يناير 2011) لحظة فارقة في التحول إلى مشهد سياسي مغاير (اللحظة الحرجة للثورة)، لكنه ليس تتويجاً للثورة، فالثورة تحمل معنى التحول إلى وضع مختلف. وكما يقول كوندورسيه "إن كلمة ثورة لا تنطبق إلا على الثورات التي يكون هدفها الحرية". حقيقة التقطتها باقي الشعوب في المنطقة العربية التي تحركت، وبأشكال مختلفة، من أجل المطالب نفسها، وهو ما يفسر التسارع الثوري في المنطقة (مصر 25 يناير 2011 وليبيا 17 فبراير 2011، ثم في سورية واليمن، وبشكل محدود في المغرب والأردن).

كانت الثورات العربية حينها تعيد صنع تاريخها، وترتيب أولوياتها، وإن بصورة مرتجلة تخلو من القيادات، أو من تنظيمات وأحزاب قائدة. غير أنه من الأكيد أن الشعوب الثائرة جميعا حينها كانت تعي هدفها المركزي، وهو الحرية، بوصفها التعبير المركزي عن إرادة الحياة لدى هذه الشعوب (شعار الشعب يريد). فسرعة اشتعال الحريق في قشّ الأنظمة العربية لم يكن حدثاً طارئاً أو عارضاً، ولم يكن من قبيل المؤامرة أو المصادفة. فتراكمات سنوات الاضطهاد والقمع، في ظل أنظمة مستبدة، تعاملت مع شعوبها بمنطق الإخضاع، بوصفها مجرد قطيع يفتقر للوعي أو الإدراك، وغير قادر على إدارة شؤونه بنفسه، لم يكن ليفضي، في النهاية، إلا إلى مثل هذه الثورات النارية المتنقلة. ويمكن القول، هنا، إنه بقدر عمق الدولة وشدة عنفها على مواطنيها، كانت ردة الفعل الشعبية بالعنف نفسه، أحياناً. وهو أمر نلحظه في الثورة على حكم الفرد في ليبيا، أو ضد حكم الحزب/الطائفة في سورية، أو حتى في مخرجات الثورة اليمنية، حيث كان الاستبداد يجمع بين منطق الدولة والقبيلة.

غير أن هذا لا ينفي حصول تدخلات دولية وإقليمية، فوجئت بسرعة الحراك الثوري العربي، وربما بخطورته على مصالحها. وبالإجمال، يمكن القول إنه عندما اندلعت شرارة الثورات العربية من تونس، وانتقلت إلى باقي دول الربيع العربي، بدا الشارع العربي موحّداً حول غاية محددة، هي التخلص من أنظمة الطغيان، والتحرر من ربقتها التي طالت عقوداً، تميزت بالانغلاق السياسي والاحتقان الاجتماعي والتصحّر الثقافي. وبدا أن رياح الثورة ستجرف كل مخلفات النظام المنهار، وكل رموزه وبقاياه الذين اختفوا من المشهد البصري. وبدأوا يرتقبون مصيرهم، وما الذي ستصنعه بهم الجماهير الثائرة. إلا أن ما طرأ على مسار الثورات العربية، ودخولها لاحقاً في متاهة الحسابات الحزبية والمصالح الدولية، ووجود عناصر مشتركة، مثل المؤامرة، والصراع الطائفي أو الجهوي أو الطبقي، وتحريض الناس على العنف والاضطراب، وانعدام القانون، ما يخرج، بالنتيجة، الكيان السياسي بأسره عن نهجه ومساره، كان من أشد أساليب الثورة المضادة نجاعة، لاستعادة أنفاسها ومحاولة خنق الحراك الثوري الذي كان يخطو حثيثاً نحو الحرية، وهو ما مكّنها، بالفعل، من تحقيق اختراقات فعلية في كيان الثورات العربية (الانقلاب في مصر، وبقاء نظام الأسد وتحول الثورة السورية إلى فوضى السلاح، واللعبة الطائفية في اليمن وصعود الحوثيين). إنها محاولة لاستغلال تحولات ما بعد الثورات، وخلق حرائق متنقلة، ودفع الشعوب إلى الفوضى لقطع الطريق أمام أي استقرارٍ، قد يفضي إلى توافقات تسمح بإيجاد وضع ديمقراطي ممكن. فالثورة المضادة تسعى إلى دفع الثورات إلى حالة حرب الكل ضد الكل بالمصطلح الهوبزي، ونقل الرعب إلى معسكر الثورة، وتحويل الحريق الذي شب في أروقة أنظمة الاستبداد إلى نار تأكل الأوطان.

إلا أن الوقائع تقول إنه ليس من السهل الارتداد بحركة التاريخ التي انطلق قطارها من دون توقف. وعلى الرغم مما يعرض لها من تعطيل أو إرباك، فالشعوب ليست جمادات، وإنما هي كائنات فاعلة، طبقا لحرية أصلية فيهم، بحيث "إذا كان ممكناً أن نملي مسبقاً ماذا يجب عليهم أن يفعلوا، فإنه لا يمكن أن نتنبأ بما هم فاعلون"، كما يقول كانط، وإن نار الثورة المقدسة التي أوقد جذوتها البوعزيزي، ذات يوم، لن تنطفئ، حتى وإن خفت نورها، لأن الأجيال العربية قد تسلمت مشعلها، وستحافظ عليها، مهما كانت الأثمان.

B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.