مونولوغ حول الارتداد الفكري

20 ديسمبر 2017
+ الخط -
هناك أمر لا أنفك أفكر به، وهو لماذا الأشخاص عندما يتقدم بهم العمر يتراجعون فكريا وتتغير قناعاتهم سلباً وبشكل جذري، وينعكس ذلك على سلوكهم من خلال حالة الارتداد الفكري التي تحصل، فبينما يكونون في شبابهم يملكون لمعان القوة الذهنية، يغدون بعد مرور السنين أشخاصا تجاريين ومهرجين ويميلون نحو الظهور على الشاشات والندوات بوصفهم مهمين ومساهمين بتغيير العالم، بينما يظهرون في غالبية لقاءاتهم مدى هشاشتهم وخوفهم من ابتعاد الأضواء عنهم. أمر محبط أن يتنازل العقل عن كل ما سعى إليه وجعله ينتصر في لحظة ما.

ما أكرهه بهؤلاء الأشخاص هو التغير غير الواع الذي يطرأ... يبدو ثمة عامل داخلي لا يستطيعون التحكم به مع التقدّم بالسن أو ربما عقلي متعلق بخلاية المخ؟ وهذه الظاهرة منتشرة انتشارا كثيراً في الأوساط الفنية، وأعتقد أنها في غالبية الأوساط المرئية وحتى الفكرية بنسبة أقل، إذ ثمة فنانون ومفكرون تشعر بأنهم خلقوا ليغيروا العالم، وعندما تستمع لآرائهم تجدهم تقليديين وأحياناً رجعيين، لكنهم يمتلكون موهبة فقط دون تتويجها بصدق وحساسية كفيلة بتغير شيء ما في هذا العالم، سأحزن كثيرا لو خبت طريقة عمل عقلي ورجعت إلى الخلف وباتت فاقدة ليقينها وقدرها حتى لو لم أكن واقعياً على قدر كبير من الموهبة.


من المخزي أن ينسف طارئ نفسي أو عقلي معين كل ما أنجزته تجربة الذاكرة عبر سنواتها الطويلة.. إن هذا يؤدي للحديث عن الموهبة الممزوجة بالصدق والنقاء، إذ برأيي سيكون أقصى ما يمكن أن يصل إليه المرء من كفاءة وروعة لأنها ستكون محصنة تلقائياً إلى حد بعيد من الانزياحات النفسية أو العقلية المحتملة مع مرور الزمن والتقدم بالسن، شيئا على شاكلة (سيغموند فرويد - فيكتور هيجو - ناظم حكمت - مارتن لوثر كينغ - كارل ماركس - ليوناردو دافنشي).. لأن مثل تلك المواهب هي فقط الجديرة بتغيير العالم، المواهب التي تبحث عن ذاتها حتى آخر نفس، وليست المواهب المتوسطة المفتقرة لعمق التأثير والتي تعتقد بأنها قدمت خدمات جليلة للعالم بينما تتوقف وهي ما تزال فعلياً قادرة أن تفعل الكثير بأن تغذي تجربتها الأولى بتجارب أخرى ربما تكون أجدى وأكثر نفعا من سابقتها، وهؤلاء من قصدهم نقدي بالأعلى.

فمثلا أشعر بالغرابة والدهشة على سبيل المثال عندما أشاهد ممثلا سينمائيا كبيرا فائزا بعدة جوائز أوسكار وينعم بثراء فاحش، لا يساهم، إن كان يحمل مبادئ وقيما معينة مثلما يوحي سلوكه وإن كان يوحي بالسخف وبوهم الإعلام أيضا. في القيام ببعض الأعمال الخيرية أو أن يكون مناصرا للقضايا الإنسانية المتنوعة التي تعم العالم بشكل عملي وفعال، أي أن يتصرف كإنسان حيوي متفاعل وليس بالضبط كسياسي أو فيلسوف منطوي على نفسه، أستغرب من هؤلاء القوم كيف يقبلون بالجوائز والتكريم على منصات التتويج مبتهجين لتصفيق الحاضرين وبألقاب وأموال تغدق عليهم من هنا وهناك. أستغرب من هذه الفئة كيف ترتضي أن تحيا على هذه الشاكلة وسط الكوارث من حولها بالوقت الذي يستطيعون أن يروجوا دعائيا على الأقل لكثير من القضايا. إنهم يرتضون أن يكونوا أداة إعلامية للكاميرات وللسجاد الأحمر فيما يبتعدون عن كونهم أداة حيوية ناضجة.

إن أي مهنة محترمة نلتزم بها هي جزء من موقف عام نتبناه من الحياة. الممثل السينمائي المخضرم "روبرت دي نيرو" والذي يمتلك موهبة تمثيلية لا غبار عليها، بعد تجربة سينمائية ثرية قام مع مجموعة أخرى من الممثلين الأميركيين بزيارة رسمية لمدينة القدس كي يشارك في عيد مولد الرئيس الإسرائيلي بعدما كان قد أدان إسرائيل بمقابلة في تلفزيون أميركي أواخر 2012، بسبب قصفها لمدينة غزة الفلسطينية منتقدا بشدة موقف الولايات المتحدة الداعم لها واصفا إياها بالصاحب الذي يرعى الكلب بإشارة مباشرة لإسرائيل.

ليست الزيارة بحد ذاتها هي الحدث المريب فهي أمرمفهوم بالنسبة لممثل أميركي مشهور ينتمي لحزب سياسي أميركي (الحزب الديمقراطي) في حال لم يصرح بأي شيء يثير إلتباسا معينا، ولكن أعلق على الازدواجية في سلوك دي نيرو نفسه، فبالنسبة لموضوع الإدانة التي صرح بها لا يعد موقفا عظيما؛ فكل إنسان لديه ذرة إحساس واحدة سيدين قصف المدنيين في أي مكان لا سيما إذا كان بأسلحة ثقيلة وفتاكة، بعد سنة يذهب لحضور مؤتمر يخص رئيس الدولة التي قامت بذلك القصف، والذي من المفترض أنه لا يحترمها بوصفها مسؤولة عن حجم الدمار الكبير الذي طاول تلك المدينة، ليقول بعدها إنه يستمتع دائما بزيارته لهذا المكان وإنها بلاد دافئة وإنه يتفهم عدوانية شعبها مثلما وصفه وإلخ..

لا يحق للممثل دينيرو في تلك الحالة المتعلقة بأرواح البشر أن يتردد ويقايض على قناعاته بفصلها عن بعضها لكي يساير وضعا سياسيا أو جماهيريا متعلقا بمكانته الحالية بين عشاق السينما. لا يحق له المقايضة فكريا على الدمار الذي حصل في مكان ما بذريعة أنه يريد أن يكون لطيفاً وعقلانيا في ظرف ووقت معين، هذا تفكير مزيف وغير بريء، سلوك الممثل دينيرو في تلك الحالة يمثل مزيجا من الازدواجية والتردد والادعاء والاستهتار بعقول المتابعين الذي ينتظرون منه أن يكون صادقا مع نفسه أكثر من إقدامه على مجاملة هذا الطرف أو ذاك؟

من اليسير إدراك أن الانتماء لحزب سياسي بأميركا بينما يكون المرء ممثلاً (فنانا) يحمل في طياته مفارقة بحد ذاتها بين غاية هذا الفن وأهداف السياسة. المثال السابق سيصبح طي النسيان بعد سنوات، وربما بعد بضع عشرات من السنين ستختفي الظاهرة السينمائية الهووليودية بشكلها الحالي.. ولكن غرضي من التطرق إليه كان البحث عن جوهر هوية الممثل الذي يريد أن يكون فنانا يصدر تاثيره للآخرين، لا أن يكون محاكاة لفن حقيقي دون أن يجسد ذلك الفعل واقعيا.

تطرقت لحادثة دي نيرو، كمثال لأنه أحد رموز هوليوود لما يحمله من تاريخ سينمائي طويل وموهبة تمثيلية لافتة، مع أن المهارة في التمثيل لا تعني بالضرورة الارتقاء بالقيمة الوجودية للإنسان، والتمثيل السينمائي هو ذلك الاقتراب القلق من الفن الرفيع الذي ينجح في إضافة شيء لنفوسنا على المستوى الشخصي. لكن الفن الحقيقي فعليا هو الذي لا ينفصل عن الأوضاع الجادة الواعية للمصير، وبالتالي يستطيع التأثير على الوضع السياسي لاحقا لا أن يكون تابعا غير مرئي لها.

ليس هناك أكثر بؤساً من أن تتراجع بينما تؤمن بأعماقك بضرورة التقدم للإمام.
42BBA522-1BE8-4B0B-9E9A-074B55E2BCB4
معتز نادر

كاتب صحافي وشاعر.يقول: من المخزي أن ينسف طارئ نفسي أو عقلي معين كل ما أنجزته تجربة الذاكرة عبر سنواتها الطويلة.. إن هذا يؤدي إلى الحديث عن الموهبة الممزوجة بالصدق والنقاء، إذ برأيي ستكون أقصى ما يمكن أن يصل إليه المرء من كفاءة وروعة.وليس ثمة قضية أهم من مواجهة الإنسان لوحدته.. إن هذا العالم نهض على الأغلب من أشياء تافهة وغير ملفتة، وهذا ما يمنح الإغراء للبحث عن حياة نقية وأكثر نضارة.

مدونات أخرى