في هذا الوقت من كل عام، يبدأ تحضير المونة (المؤونة) البلدية أو مونة الشتاء، وهي أطعمة تُصنع يدوياً وتحفظ في البيوت من دون مواد حافظة، كالتين ودبس الرمان والعنب والبندورة (الطماطم) والقمح والكشك وكل أنواع الألبان والأجبان وغيرها، في قرى وبلدات العرقوب وحاصبيا ومرجعيون، في جنوب لبنان. وتنشط ربات البيوت في تحضير أنواع مختلفة من المونة تتميّز بفوائدها الصحية على عكس المواد نفسها التي تباع في المحال التجارية.
وزاد الطلب عليها هذه الأيام نتيجة الظروف الاقتصادية الصعبة الذي يعانيها اللبنانيون، إضافة إلى الإجراءات الوقائية للحد من تفشي فيروس كورونا، والحجر المنزلي والتباعد الاجتماعي. واقع دفع كثيرين للعودة إلى قراهم التي شكلت متنفساً بالنسبة إليهم. عادوا إلى حيث الحقول والسهول التي تكثر فيها أنواع مختلفة من الخضار والفاكهة والأعشاب الطبيعية. وكانوا حتى الأمس القريب يعتمدون في فصل الشتاء على ما يقومون بتخزينه في فصل الصيف من كشك ومكدوس الباذنجان والخيار ومربى التين والتفاح والمشمش والسفرجل والرمان والعنب والزبيب والزعتر والسماق ولبنة الماعز والجبنة والزيت والزيتون وحتى الصابون البلدي والزهورات وغيرها.
بعض النساء استعدن ما كن قد تعلمنه من أهلهن لتحضير أنواع من المونة البلدية، وأخريات استعنّ بمن حولهن من أهل الخبرة من كبار السن أو الجيران. وهناك من لجأن إلى وسائل التواصل الاجتماعي للبحث عن الطريقة الأفضل لإعداد المونة.
تجمع أم محمد أوراق العنب لكبسه في عبوات جمعتها على مدى العام، إضافة إلى الكشك المكوّن من البرغل ولبن الماعز. توضح أنها تتولى عجنه ثم وضعه تحت أشعة الشمس كي يجف، لتطحنه لاحقاً فيصبح جاهزاً للأكل. وعادة ما تعد فطائر بالكشك أو تطهوه في فصل الشتاء مع بعض القاورما (لحم محفوظ بالدهن غني بالتوابل)، وهي وجبة تمنح من يتناولها الطاقة والدفء.
وتشير أم محمد إلى أنه بعد عودتها منذ أعوام من الخليج، بدأت تعتاد على تحضير المونة البلدية مستعينة بأقاربها وما تتذكره من صغرها حين كان أهلها يحضّرون المونة بشكل دائم.
أما سهام نبعة، فكانت تحرك زيت الزيتون الممزوج مع مادة القطرونة والماء على نار الحطب لصناعة الصابون البلدي. وتؤكد "بدأنا موسم المونة وقد تعلمنا تحضيرها من أهلنا. ومع الوقت، صرنا نعرف تحضير أنواع أخرى من المونة". وتقول: "من يريد تحضير المونة يبدأ هذه الأيام"، لافتة إلى أن أهميتها أنها تبقى من عام إلى آخر. وتوضح أن الوضع الاقتصادي والغلاء الجنوني لأسعار المواد الغذائية دفع الكثير من الناس لإعداد أو شراء المونة البلدية.
والى جانبها، تقوم والدتها أم صائب نبعة (84 عاماً)، بفرط أوراق النعناع المقطوفة من حقلها لوضعها لاحقاً في الفيء حتى تجف وتخزنها لمونة الشتاء. تقول: "هذا النعناع من رزقنا".
تتحدث بفخر عن المونة البلدية التي تربت عليها وتعلمت تحضيرها من الأهل والأجداد. وباتت هي وأخريات يعلّمنها لأولادهن، وتقول: "نحضّر المونة البلدية من كشك ومعقود (المربيات على أنواعها)، وقليلاً ما نشتري مواد غذائية من الدكان. وهذه المونة صحية جداً، حتى أننا لا نذهب إلى الأطباء"، لافتةً إلى أن ابنها البكر لديه خمسة رؤوس من الماعز يعتني بها "ما يؤمن لنا الحليب ومشتقاته".
تعدد أم خليل إبراهيم أنواع المونة البلدية، وتقول: "تعلمنا تحضير المونة من أهلنا، وأولادنا يتعلّمون كيفية تحضيرها منا. لا نستطيع العيش من دونها كونها صحية ومغذية، ونعدها من أرضنا ورزقنا. وتعتبر المونة البلدية أفضل هدية نقدمها لأقربائنا وأصدقائنا وأحبائنا، وقد وفرت علينا الكثير من المصاريف في هذه الظروف الإقتصادية الصعبة".
من جهتها، تُحضّر أم خالد عطوي مربّى اليقطين، لافتة إلى أن "المونة البلدية تعود إلى أيام أجدادانا، وما زلنا نحافظ عليها". وتؤكد أنها طبيعية مائة في المائة، قائلة إن تحضير المونة بات مصدر رزق لها، لا سيما بعد وفاة زوجها. تضيف: "استطعت بفضل المونة البلدية وما أبيعه منها أن أعلّم أولادي في الجامعات، وقد تزوجوا اليوم".
وتنصح أم خالد النساء وربات المنازل بإعداد المونة البلدية، لا سيما في ظل أزمة كورونا وتبعاتها، حيث يمكن لهن الاستفادة من الحجر المنزلي وزراعة أي شيء حتى على شرفات المنازل، وصنع المونة البلدية مما ينتجنه، ما يؤمن لهن الاكتفاء الذاتي "كما أن إعداد المونة البلدية يدخل السرور إلى قلوبنا لأنها من صنع أيدينا".