عند الكتابة عن الموت وأغانيه، لا بد من الوقوف عند الأغنية المجرية، "الأحد الكئيب/ (gloomy Sunday" 1936) التي كتبها الشاعر وعازف البيانو ريز سيريس. انتحر عدد من صنّاع الأغنية، ومن أدّوها لاحقاً، حتى أن الإذاعة الأميركية منعتها. تصف الأغنية كيفية تلاعب الظلال بروح الشاعر، وتدعوه للحاق بحبيبته التي فقدها: "الملائكة لا يخطر ببالها أن ترجعك أبداً، هل سيغضبون إذا لحقت بك يوم أحد كئيب؟". اللحن الذي يحمل شخصية الموسيقى المجرية الدرامية الحادة التي تدفع بالمشاعر حتى الحواف، لا يترك أملاً في استرجاع الميت إلا وانتهكه، حتى يترك المستمع منهكاً عاطفيا. صُنع اللحن على البيانو والكمان المجري بطابع اليديشي الغجري، ثم تم تحويله إلى أغنية جاز كلاسيكية التوزيع.
في إيرلندا، تُشتهر الأغنية التراثية "امتدتُّ على قبرك/ I am stretched on your grave" التي تأتي على شكل أشبه بالمربعات الكلامية على نفس الدائرة من الهارموني والتناغم اللحني، الذي يتكرر بدوره في دوائر متصلة. يمكن لهذا اللحن، على بساطته، أن يدور حول أي موضوع آخر، كما هو حول الحداد والموت. عموماً، تكمن الحدة كلها في الكلمات؛ حيث يخاطب الشاعر حبيبته: "امتدتُّ على قبرك، وسأرقد هنا إلى الأبد.. فقط لو كانت يداك في يديّ، كنت أطمئن أنهما لن تُقطعا. شجرتي.. ضوئي الساطع/ حان الوقت أن نكون معاً.. لأن رائحتي كالأرض".
نبقى في إيرلندا؛ حيث الوفرة في أغاني الموت. ننتقل من الأغاني المحايدة الروحية، إلى أغاني الجنازة المبهجة الراقصة قليلاً، التي تتسم بأجوائها الاحتفالية، واللا مبالاة، والرعونة ربما، مع المحافظة على البناء البدائي للأغنيات التراثية من جملة متكررة وقالب متكرر: "انظر إلى التابوت بمقابضه الذهبية، أليس أمراً كبيراً أن تكون ميتاً يا رجل؟ دائما تذكر: كلما طال عمرك؛ يعني أن موتك اقترب على أي حال!".
تكثر أغاني الحداد ووداع الموتى التقليدية السلتية، ومنها أغنية الوداع الكلاسيكية الكاثوليكية، "لعل كورال الملائكة يرشدك" المتفائلة نوعاً ما؛ لأنها تركّز على الوداع وتمني الخير للميت عبر لقائه أرواح الشهداء والقديسين في الجنة، لتقوده إلى مكان جميل يستحقه. معظم ما يُرتّل داخل الكنائس يكون على هذه الشاكلة من الحياد اللحني، بل والتفاؤل الهادف إلى المواساة والتركيز على الجانب الإيجابي للفقد من خلال الاستعانة بالمفهوم الديني حول الحياة الأخرى بعد الموت. لا تخلو هذه الأغاني من عدم الاكتراث تجاه المشاعر المؤلمة التي نمر بها بعد موت عزيز.
في فييتنام؛ حيث يصعب العثور على موسيقى تُعزف جيداً، إلا أن هناك تقليداً عند الموت: تستمر الجنازة ثلاثة أيام، تُغلق خلالها الطريق، ويجتمع فيها الأهل والأصدقاء على المشروبات والطعام، وعلى موسيقى الجنازات الحية؛ في مفارقة تتجاوز أن تكون لغوية فقط، إذ يؤمنون بأن الموسيقى الحية من أجل الراحل ضرورة. إلى جانب الآلات التقليدية، أضاف الفييتاميون مزيداً من الآت النقر الوترية الحديثة إلى موسيقاهم، مثل الغيتار. التكرار غالب هنا أيضاً، والحلقية، لكنها قائمة على الارتجال أكثر من الحفظ.
لا يغيب التكرار النغمي عن أغنية الحداد الألبانية، ويلحظ ثبات الخط اللحني الأساسي، ما يذكرنا بطريقة الحداد المصرية صعيدية الأصل، التي تُسمّى بـ العديد.
في اسكتلندا، يبقى المزمار القربي حاضراً بالطبع، ومرافقاً لموسيقى وأغاني الجنازات، مضفياً طابعاً رسمياً مهيباً إلى الموقف، ربما لارتباطه بمشاهد الجنازات المهيبة في الأفلام، أو ارتباط آلات النفخ بالجنازات العسكرية والمناسبات الرسمية. من الترانيم الشهيرة في اسكتلدنا، "النعمة المدهشة": "نعم، عندما يكف هذا اللحم والقلب عن الحياة، سأمتلكك داخل الحجاب".
في اللغة الاسكتلندية الغيلية، نتلمّس لغةً يسيطر عليها الأمل والشعور بالراحة عند الموت، بنغمات حالمة هادئة الإيقاع: "إنه وقت قصير حتي ينتهي اليوم.. سيأتي الليل وأرغب الراحة، سيكون نومي الأبدي هادئ حين أريح رأسي في الجزيرة السعيدة".
في الحركة الثالثة من "سيمفونية الأغاني الحزينة"، يجسّد الموسيقي البولدني، هنريك غوركي، الحداد الهادئ لأم علمت بموت ابنها الذي أضنيت بحثاً عنه في الحركة الأولى، والمفاجئ أن هذه الحركة أقل ظلاماً من مناجاة الابن لها في الحركة الثانية المفعمة بالألم، تتمنى الأم: "آه.. غنوا له أغاني الرب الصغيرة يا طيور؛ لأن أمه لا تجده.. وأنتم، يا زهور الرب الصغيرة، لعلكم تزهرون في كل الأنحاء، حتى ينام ابني نوماً سعيداً".
لا تختلف أغاني الحداد، في أوغندا، عن الأغاني الأفريقية التراثية من حيث سرعة الإيقاع الراقص، أو الغناء الجماعي المتكرر، الذي يقوم بالرد على القائد والخلفية النغمية البسيطة المتكررة في حلقات لا تنتهي. في البلد نفسه، يظهر الصوت النسائي الذي يترجم الحزن على شكل صراخ منغم يقابله المحيطون والمحيطات بالرد في هارموني يسانده ويتقاطع معه بما يشبه المواساة الجماعية، ويستمر في حلقات متكررة. بالطبع، لا نغفل دور التكرار في الانغماس في الحالة على اختلافها بما يشبه حلقات الذكر، ما يؤدي إلى تصاعد حدة الأداء مع الاستمرار.
تبدو أغنية الحداد لدى سكان أميركا الأصليين، مشابهة جداً للأغنية الأفريقية من حيث وحدة وتكرار الجملة والتنويع البسيط عليها عند الإعادة.
عند الحديث عن الغناء للموت والموتى في العالم العربي، لا بدّ من الإشارة إلى اللطميات، أو البكائيات التي يؤديها الشيعة، خصوصاً في العراق. هناك، يبدأ الإمام في الحكي المؤثر، أو قراءة مقاطع من اللطمية قبل غنائها، ثم ينتقل منه إلى الحكي المنغّم في بناء درامي تصاعدي، يضمن له جمهوراً متفاعلاً يشاركه الترديد والبكاء، وهكذا إلى أن يصل إلى حد الصراخ والعويل حزناً على الحسين ومناجاة له.
في بعض المقاطع من اللطميات، يمتزج الحزن بين الشخصي والعام، الذي يخص الحسين، إلى جانب نعي السيدة زينب والإمام علي، وحكايا الاتعاظ والمصائب ين الحقيقة والميتافيزيقيا. تدريجياً، تعود البكائيات إلى نغمة وإيقاع هادئين، يبدو فيهما التفاؤل، ثم يتصاعد الإيقاع تدريجياً، وينتقل مع بناء درامي ورتمي تصاعديين ومتوازيين، إلى أن يصلا إلى الذروة التي تتمثّل بالعويل والصراخ واللطم في إيقاع يتماشى مع نبرة العويل في حلقة لا تنتهي، يُستخدم فيها أحياناً الجسد، سواء بشكل من أشكال الرقص الجماعي، أو باستخدام أسلحة حادة لجرح الرأس والظّهر، وذلك في محاكاة واقعية للمعارك المحكية. مظهر لنشاط جماعي تلقائي محموم، يتحول إلى سباق لاواعٍ بفعل كل ما سبق من عوامل تكوّن الحلقة التي لا تنقطع.
يلعب الجسد في هذه اللطميات دوراً آلياً؛ إذ يُستخدم كآلة إيقاعية، حيث يضرب المشاركون في هذه البكائية على صدورهم بشكل مُنتظم عند نهاية كل مقطع، ليُسمع صوت الضرب الجماعي كإيقاع يرافق النشيد، الذي كثيراً ما يكون على مقام الكُرد. ويُسمّى المُغنّي الأساسي في هذه المناسبات بـ الرادود، ومن أشهرهم، باسم الكربلائي، وحسين فيصل، وجعفر موسى.
تلك الحلقة في العراق، يشبهها فن العديد في مصر، الصعيد تحديداً، مع اختلاف الموضوع كلياً. العديد فن فطري، ما يزال محتفظاً بشكله الأصلي، ويتم تدريسه كفن، وجرى توارثه كعادة، وممارسته كمهنة في الجنوب. تتكوّن العدّودة، بشكل أساسي، من جملتين، أو أربع، على نفس الوزن والقافية، من دون أي مرافقة موسيقية، غالباً، وذلك بسبب الخلفية العقائدية والاجتماعية المحافظة التي لا تتقبّل الآلات الموسيقية، سواءً في العديد القبطي أو الإسلامي.
عموماً، يذهب العديد إلى نداء الميت والترحم عليه، وتوصية للأرض والإله بمعاملته جيداً، وذكر محاسنه. كذلك يتضمن العديد اعتراضاً على الموت ومناكفات له، ولعنه، ثم النقيض تماماً، إذ تذهب الامرأة التي "تغنّي" إلى التودد له من أجل إرجاع الميت، أو مساعدة النائح على اللحاق به، وبين الرثاء على حاله من بعد الفقد. في مجتمع الصعيد، السيدات هنّ من يتولّين العديد، ويرجع هذا إلى المعتقدات الاجتماعية التي ترى في بكاء الرجل عيباً. في ما يخصّ العدّودة، فهي كثير من أغاني الموت لدى مختلف الشعوب، لا يغيب عنها الرّتم المتكرّر المنوّم.
عودةً إلى النساء، وممارسة العديد كمهنة؛ فهي عادة عربية قديمة، وحتى يومنا هذا، نجد في كثير من مجالس العزاء في العالم العربي، امرأة أو اثنتين، مهمّتها الغناء أو الترنيم للفقيد، والبكاء عليه، بهدف إثارة مشاعر الحاضرات من النساء وإبكائهنّ. يُذكّرنا الأمر بقصيدة مالك بن الريب التي رثى فيها نفسه: "وبالرمل منّا نسوة لو شَهِدْنَني/ بَكينَ وفَدَّين الطبيبَ المُداويا. فمنهنّ أمي وابنتايَ وخالتي/ وباكيةٌ أخرى تَهيجُ البواكيا".