موسم لعبة "الركمجة" في العراق

02 سبتمبر 2015
+ الخط -
تعرّفت إلى رياضة "ركوب الموجة"، إبّان إقامتي في روما. كان جاري الإيطالي يهوى هذه الرياضة الخطرة، ويمارسها باستمرار، وهو من المؤمنين بأن الموت واحد، وإذا لم يمت المرء في لعبة "الركمجة"، بحسب الكلمة التي نحتها الموسوعي الراحل، منير البعلبكي، فإنه لا بد أن يموت بغيرها، وعلى الرغم من محاولات جاري إقناعي بتدريبي على ممارستها، إلا أنني كنت أرفض باستمرار، فأنا، بخلاف جاري، أؤمن بأن المرء إذا كان لا بد من أن يموت، فليمت في لعبة أخرى من لعب الحياة، لكنني عرفت، من مجالستي جاري، الكثير عن هذه اللعبة المثيرة التي يسميها بعضهم "لعبة الموت"، والتي تقوم على الطفو فوق أمواج البحر، باستخدام ألواح خاصة، مصنوعة من مادة البلاستيك القوي والخفيف الوزن، مهيأة للانزلاق على طول قمة الموجة المائية، واللاعب البارع هو من يستطيع التحكم في درجة الانزلاق ومداه، منتقلاً من موجة إلى أخرى، إلا أن هناك من تستهويه روح المغامرة ومتعة اكتشاف الخطر، فيتخلى عن استخدام اللوح، ليطفو على الموجة المائية نفسها من دونه، معرضاً نفسه لخطر الموت، خصوصاً إذا ما واجهته حالة هياج البحر التي ربما تقذف به في المجهول.
وقد انتقلت هذه اللعبة مجازاً من ميدان الرياضة إلى ميادين الحياة الأخرى، وكما برع لاعبون رياضيون فيها، فقد ظهر لاعبون ماهرون في "الركمجة" في ميادين السياسة والاقتصاد، في هذا البلد أو ذاك. ومنهم من استطاع جني الملايين، وقد كان لا يملك شروى نقير، كما استطاع غيره تسلق المناصب العالية في بلده، من دون عناء، مع أنه لم يكن يمتلك من مؤهلاتها أدنى الشروط. وهنا، يتقدم العراق على غيره من بلاد الله، فقد شهدنا معظم أفراد الطبقة السياسية الذين حكموا البلاد بعد الاحتلال يتسابقون على ممارسة هذه اللعبة، كلما شعروا أن الشغل الذي أوكلوه لأنفسهم، أو أوكل لهم، يتطلب ذلك، ونعترف أنهم حققوا أرقاماً عالية تستحقها موسوعة غينيس، وقد أصبح لهم طول باع فيها، بعد أن اختبروها دزينة من السنين العجاف، واستطاعوا أن يخرجوا منها في كل شوط سالمين غانمين.

بدأ موسم "لعبة الركمجة" في العراق، هذا العام، مبكراً، إذ شعر معظم اللاعبين أن ثمة تململا حتى داخل الأوساط الشعبية التي تدعمهم، حيث لم يعد ينفع انتظار ظهور "المهدي" في كبح جماح المواطنين المحرومين من أبسط متطلبات الحياة الكريمة، وتحول هذا التململ، في منتصف العام، إلى حراك اتسع نطاقه، ليأخذ شكل انتفاضة جماهيرية، تجاوزت الخطوط الحمر، ولم يعد "الحق في الحصول على الكهرباء" سوى مفردة صغيرة جداً في جدولها، كما لم يعد تجريم موظف بسيط في دائرة لحصوله على الرشوة، أو إبدال محافظ بآخر، كافيا لاستنفاد الغضب، فقد تصاعدت مطالب الناس المقهورين، وباتوا يريدون حزمة حقوق افتقدوها دهراً، الحق في المواطنة، الحق في الحرية، الحق في الأمن والأمان، الحق في التغيير، والحق في ممارسة الحياة كبشر.
أرعبت صيحات المنتفضين أفراد الطبقة السياسية الحاكمة، ودفعتهم إلى ممارسة لعبة "الركمجة" على أوسع نطاق: دخل "العصائبيون" التظاهرات، وهم يؤشرون على "فشل وإخفاق في كل الملفات"، ويدعون إلى "مشروع للتغيير"، وقال "الصدريون" إنهم يشتركون مع غيرهم في "بوتقة وطنية عراقية واحدة، بعيدة عن الفئوية والجهوية"، ورفعت منظمة بدر رأسها مطالبة بـ "إعادة حقوق المواطنين المسلوبة"، وعبر "التحالف الوطني" عن "دعمه الكامل لعملية الإصلاح، وألقى "ائتلاف الوطنية العراقية" باللائمة على الحكومة، "لعدم استجابتها لمطالب الناس بالشمولية والجذرية"، وتحدّث الشيوعيون المشاركون في "العملية السياسية" عن "ضرورة القيام بإصلاحات جذرية"، ورفع أنصار حزب الدعوة شعار محاربة الفساد، داعين إلى إصلاحات اقتصادية وسياسية، ودخلت "المرجعية الشيعية" على الخط، لتدعو إلى المساواة ونبذ المحاصصة، وأكدت مرجعيات أخرى على "ضرورة إجراء تغييرات جوهرية في مفاصل كثيرة" ... إلخ.
أين كان هؤلاء طوال دزينة السنوات العجاف التي مرّت، ألم يكونوا هم الراعين للعملية السياسية التي شرعنت خيوط الطائفية والعرقية والفساد، وقد أسهموا، عن قصد أو عن غير قصد، في إشاعة الفساد في كل زاوية ومرفق؟
هكذا، إذن، لا تبدو طروحاتهم اليوم أكثر من محاولات مكشوفة لركوب موجة الانتفاضة، والانتظار إلى حين مرور العاصفة، ومن ثم العودة إلى مزاولة دورهم في تسويق الأوهام مجدداً، وما نخشاه أن يفقد شباب الانتفاضة عنصر المبادرة، إذا لم يوحدوا قياداتهم، ويحددوا أولوياتهم، وينسقوا مواقفهم على مستوى البلد كله، ويمتلكوا رؤية استراتيجية واضحة، والخشية الأكبر أن تنتقل راية التغيير من أيديهم إلى أيدي حيتان الفساد والطائفية، وعندها سيتمكن هؤلاء من تحصين مواقعهم، معتمدين على نفوذ إيران، ومستغلين سلطة المرجعية الشيعية، وهنا مكمن الخطر.

دلالات
583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"