موسم الهجرة إلى الشرق البارد

23 اغسطس 2016
+ الخط -
لن يجد بوتين، سليل "كي جي بي"، في الذكرى 25 للانقلاب الفاشل الذي قاد إلى انهيار امبراطورية الاتحاد السوفييتي شيئاً أفضل من التسابق الشرق أوسطي نحو موسكو، بعد أن ظلت أميركا تصنع التحالفات، وتصنع الأنظمة ضد بقايا موسكو وأشباح الصين القادمة. ففي مثل الأسبوع الجاري من أغسطس/ آب الذي نودعه، من سنة 1991، دخلت مجموعة من الدبابات الى موسكو، يقودها متشدّدون في الجيش الأحمر الشيوعي. وقتها "أكد هؤلاء الانقلابيون، بقيادة نائب الرئيس السوفييتي، غينادي ياناييف، ورئيس جهاز الاستخبارات السوفييتية (كي.جي.بي)، فلاديمير كريوتشكوف، ووزير الدفاع، ديمتري يازوف، أن الرئيس السوفياتي ميخائيل غورباتشوف الذي كان يمضي آنذاك إجازة في القرم غير قادر على تحمل مسؤولياته، لأسباب صحية، مطالبين بإعلان حالة الطوارئ"، كما ذكرت وكالة الأنباء الفرنسية.
شفير الانهيار الذي حذر منه الانقلابيون، بسبب البريسترويكا والغلاسنوست اللتين دعا إليهما غورباتشوف، أصبح جزءاً من الماضي. فلأول مرة من 25 سنة بالضبط، أي المدة التي فصلته عن الانقلاب، تعود روسيا إلى قلب السياسة في الشرق الأوسط، ولعل أقوى بابٍ دخلت منه هو الباب العالي في تركيا. ففي أعقاب انقلاب آخر، وجه أردوغان موجته لمناهضة أميركا التي اتهمها برعاية فتح الله غولن، ومحاولة القضاء عليه. فقد برزت موجة مناهضة للولايات المتحدة، لم يجد الرئيس غضاضة في أن يتموج معها، على الرغم من التنبيهات التي تحذره من "المجازفة بالإساءة إلى تحالفات أنقرة بشكل دائم".
تقاذفت أنقرة وواشنطن كرة النار، وتابعنا، عبر الصحافة، كيف حذر وزير العدل، بكر بوزداغ، من أن شعور مناهضة الولايات المتحدة يهدّد بالتحول إلى "كراهية"، في حين ندّدت وزارة الخارجية الأميركية بـ"خطاب ناري غير مجدٍ قطعاً".
تتلاطم الموجة نفسها على ضفاف أوروبا التي قدمت لها تركيا نموذجاً ناجحاً في التعاون في ملف الهجرة، وسجلنا في الملف الأوروبي أيضاً لحظات حرجة في ترشيح تركيا لعضوية الاتحاد الأوروبي الذي قالت المراكز المتابعة له، في السياسة وفي الإعلام، إنه "يمر بأسوأ أزمة منذ سنوات".
بالنسبة للجيواستراتيجية الكلاسيكية، يعد التقرب من الغرب في تركيا، العضو في الحلف الأطلسي منذ 1952، حجر الزاوية في السياسة الخارجية. لكن الرئيس أردوغان الذي خرج قوياً من محاولة الانقلاب الفاشلة اتجه شرقاً نحو موسكو التي كانت أول قبلة له بعد المحاولة. ولعل التحول الرئيسي، أخيراً، هو الدعوة التركية إلى التنسيق العسكري مع روسيا، في مواجهة مشتركة ضد تنظيم الدولة الإسلامية في سورية التي تشكل، في العمق، أحد الملفات الخلافية الكبرى بين أنقرة وموسكو، خلاف على طرفي النقيض بين الأتراك والروس، إذ تساند موسكو رئيساً تريد أنقرة تنحيته والقضاء عليه.

وفي التقسيم الجديد، للجيوستراتيجية، يرى محللون عسكريون وسياسيون أن سورية تعد امتداداً لأوكرانيا، لأنهما معاً تساعدان على تحديد الخطوط الحمراء التي لا يريد رجل روسيا القوي أن تتجاوزها أميركا والحلف الأطلسي، إنهما معاً، في الواقع، يساعدان فلاديمير بوتين على القبول بجدار برلين آخر في… سورية. ولهذا، ربما يكون انطلاق الطائرات الروسية من إيران ذا دلالةٍ غير مسبوقة، فروسيا أطلقت مقاتلاتها لتقصف مواقع جهاديين في سورية، انطلاقاً من إيران للمرة الأولى، وعبّرت واشنطن عن أسفها، وقالت "إنه أمر مؤسف لكن ليس مستغرباً". وهو موقف ينبئ كما لو أن أميركا تملك شبكة قراءةٍ لا تستبعد فيها هذا التقارب الإيراني الروسي، على الرغم من أنها هي التي قادت انفراج علاقات طهران مع العالم. والحال أن روسيا لم يسبق لها استعمال أي قاعدةٍ أجنبيةٍ غير حميميم في سورية، كما أن إيران لم تسمح لأية قوة عسكرية باستعمال أراضيها من لدن قوة أجنبية، وقد أوردت وكالات الأنباء اتفاق المحللين على أنها مرحلةٌ جديدة في الحملة العسكرية الروسية في سورية. وأن "استخدام هذه القاعدة يعطي روسيا تقدماً تكتيكياً، لان قاذفاتها الثقيلة يمكنها نقل قذائف أكثر بكثير إذا كان وقت طيرانها أقل".
ومن سوء حظ واشنطن أن بوتين يعرف ما يريد من الحرب في سورية، بعيداً عن الحفاظ على حليف دائم، إنه يريد أن يثبت نجاحه في ما فشلت فيه الإمبراطورية الأميركية في الشرق الأوسط، أي الحرب على داعش.
من تركيا السنية إلى إيران الشيعية إلى سورية المخضرمة، تتحقق نبوءة الجنرال الفرنسي، جان بيرنار بيناتيل، التي قال فيها سنة 2014 "روسيا هي البلد الوحيد الذي يمكنه أن يتحدّث مع كل الدول الإسلامية، سنة كانت أو شيعة".
ماذا تفعل أميركا؟ في هذا الوقت، تراقب أميركا، بعقولها الاستراتيجية، وفي مقدمتهم زبيغينيو بريجينسكي الذي كتب مقالة مطولة عن "أميركا التي لم تعد القوة الإمبريالية العالمية". لهذا "يقترح عليها أن تفتح الباب أمام دخول روسيا والصين، باعتبارهما المنافسين الجيواسراتيجييين لها، إلى الشرق الأوسط وخدمة مصالحها"، و تسخير العالم الإسلامي للخدمة نفسها، عبر ما يسميها "اليقطة الديموقراطية الدولية". ولعل هذه العبارة تحيلنا على تقاربٍ لم يكن متوقعاً من قبل، ففي المغرب الكبير، حيث كانت روسيا حليفاً قويا للجزائر، ربحت موسكو انضمام المغرب، الغاضب من المشاريع الأميركية في المنطقة، وبالذات من موقفها الملغوم من وحدته الترابية، وسعيها الى تفتيت كيانه. وعمل العاهل المغربي، محمد السادس، على توسيع الدعوة لتشمل دول التعاون الخليجية، في خطاب علني في الرياض. وقتها قاد هجوماً على ما سماها بريجينسكي اليقظة الديموقراطية، قائلاً "المنطقة العربية تعيش على وقع محاولات تغيير الأنظمة وتقسيم الدول، كما هو الشأن في سورية والعراق وليبيا (….)، فبعدما تم تقديمه كربيع عربي، خلف خراباً ودماراً ومآسي إنسانية، ها نحن اليوم نعيش خريفاً كارثياً". وسعى العاهل المغربي إلى تقديم شبكة للقراءة للدول الخليجية عن تحالفات جديدة، قد تؤدي إلى التفرقة، وإلى إعادة ترتيب الأوراق في المنطقة. "وهي في الحقيقة، محاولات لإشعال الفتنة، وخلق فوضى جديدة، لن تستثني أي بلد"، ما يستوجب شراكة استراتيجية معمقة، قطبها روسيا، ولا تستثنى الهند وجمهورية الصين الشعبية.
لطالما أطلقت روسيا- الاتحاد السوفياتي على أميركا تعبير "الجزيرة العالمية"، في حين تسمي الأدبيات الجيوستراتيجية المحيط الروسي أو أورو-آسيا "الأرض العالمية". وفي التسمية، يكمن الكثير من الفهم الخاص بالتنافس العالمي.. الآن.
فمن يدري، قد يحلو للشرق الأوسط الملتهب أن ينعش نفسه في الشرق الروسي البارد.











768EA96E-E08E-4A79-B950-D8980EE5911C
عبد الحميد اجماهيري

كاتب وشاعر وصحفي مغربي، مدير تحرير صحيفة الاتحاد المغربية، مواليد 1963، عمل في صحيفتين بالفرنسية، من كتبه "أوفقير .. العائلة والدم.. عن انقلاب 1972"، ترجم كتابا عن معتقل تازمامارت. مسوول في فدرالية الناشرين المغاربة.