موريتاني غوانتنامو: السجين الرحيم بسجانه!

08 مارس 2015
Little, Brown and Company, US, 2015))
+ الخط -
كثيرة هي الأدبيات التي نشرت بعد ثلاثة عشر عاماً على افتتاح معسكر غوانتنامو الرهيب. هناك تقارير صحافية، وثائق رسمية، تحليلات أكاديمية، روايات أدبية ومذكرتان لمعتقلين كتبتا وصدرتا بعد الإفراج عنهما. لكن ليس هناك كتاب يوازي "مذكرات غوانتنامو"، سواء من حيث القيمة أو التفاصيل أو الحميمية الدقيقة، يرصد تجربة معسكر غوانتنامو الرهيب. في هذا الكتاب المثير، يقدم الموريتاني محمد ولد صلاحي مقاربة مدهشة وغير تقليدية لتفاصيل ما تعرّض له من اختطاف وترحيل سري وتعذيب، وبحس إنساني مرهف. هذه هي المذكرات الأولى والوحيدة التي كُتبت ونُشرت لسجين لا يزال قابعاً داخل أسوأ معسكر اعتقال صيتاً في العالم.

بدأ صلاحي في كتابة مذكراته بعد سنوات ثلاث على اعتقاله، سجل فيها سطوراً عن حياته قبل إلقاء القبض عليه إلى جانب يومياته كمعتقل. لكن كتابه أكثر من مجرد سجل يفضح الإخفاق الأميركي في تحقيق العدالة، فهو أيضاً نص إنساني عميق مضامينه تثير الرعب والاشمئزاز، لكنه مع ذلك يتلوّن بالظرف والسخرية وبقدر مدهش من نبل وتهذيب كاتبه. ناضل محامو صلاحي سبع سنوات للإفراج عن مخطوطة الكتاب، وبعد فشل إدارة المعتقل في حجبها لمدة أطول، أفرجت عنها، لكن الرقيب الأميركي مزّق جسد النص بخطوط سوداء علت صفحاته في مواضع شتّى وحجبت أحياناً صفحات بأكملها. مع ذلك، حقق الكتاب، ومنذ اليوم الأول لنشره، أرقام مبيعات قياسية في الولايات المتحدة وبريطانيا، وهو بشهادة كثيرين داخل أميركا والغرب يمتاز بأهمية تاريخية ويشكل حجر أساس لحملة دولية لإطلاق سراح صلاحي.

في عام 2001، استُدعيَ مهندس الالكترونيات محمد ولد صلاحي إلى قسم للشرطة في بلاده موريتانيا. ولأنه كان يظن أنه مجرد استدعاء وأنه سيعود إلى بيته في آخر النهار، قاد سيارته بنفسه وذهب إلى هناك. لكن بدل رجوعه إلى بيته، وضعته وكالة الاستخبارت الأميركية في طائرة سرية ونقلته إلى الأردن ومنها إلى أفغانستان، وأخيراً إلى غوانتنامو. وفي عام 2010، وبعد إخفاق السلطات الأميركية في توجيه أي تهمة له، أصدر أحد القضاة الفيدراليين حكماً يقضي بإطلاق سراحه. لكن إدارة أوباما (وهو الذي وعد بإغلاق غوانتنامو خلال حملته الانتخابية للرئاسة)، استأنفت الحكم وبقي صلاحي أسير السجن المرعب حتى اليوم، ومن دون تهمة.

تبدأ قصة هذا الموريتاني، ابن تاجر الجمال، عند بلوغه السابعة عشرة وحصوله على منحة لدراسة الهندسة الالكترونية في ألمانيا. حينها غادر بلاده والتحق بإحدى الجامعات الألمانية، لكنه في عام 1990 ترك الدراسة ورحل إلى أفغانستان لمحاربة السوفييت. وهناك تلقى تدريبات قتالية في واحد من معسكرات القاعدة. لكن بعد انسحاب السوفييت من أفغانستان في العام الذي يليه، ولأن "المجاهدين بدأوا بتدشين جهاد ضد بعضهم البعض"، كما يقول صلاحي نفسه، انسحب من المشهد وعاد إلى استئناف دراسته في جامعته الألمانية. من سوء حظه أنه يمت بصلة قرابة لمحفوظ ولد الوليد، المعروف بأبي حفص الموريتاني، الذي كان مستشاراً فقهياً لابن لادن، كما أن زوجة صلاحي هي شقيقة زوجة أبي حفص. لكن أبي حفص تبرّأ من تفجيرات نيويورك وكتب رسالة ضدها إلى بن لادن سجل فيها اعتراضاً مسنداً بأدلة شرعية، ثم انسحب من القاعدة. وقد أفرج عنه المحققون الأميركيون بعد اعتقاله والتحقيق معه في موريتانيا، وهو الآن حر طليق بخلاف صلاحي.

بعد إتمام صلاحي دراسته الجامعية في ألمانيا، انتقل منها إلى مونتريال الكندية عام 1999. واظب هناك على الصلاة في مسجد كان يرتاده الجزائري أحمد رسام، أحد أفراد تنظيم القاعدة، الذي اعتقل على الحدود الكندية الأميركية وهو في سيارة معبأة بالمتفجرات. كان مخطط رسام، أو ما أصبح يسمى بـ"عملية الألفية"، يقضي بتفجير مطار لوس أنجلوس الدولي ليلة رأس السنة. بعد إلقاء القبض عليه، عمد المحققون إلى التدقيق في خلفيات رواد المسجد الذي كان يرتاده. وبالطبع وضع صلاحي تحت المراقبة بسبب ذهابه إلى أفغانستان. لكن بعد تحقيق السلطات الكندية مع صلاحي، تبيّن لها أن لا علاقة له بعملية الألفية. غير أن قلقاً انتابه، ولهذا قرر في مطلع عام 2000 العودة إلى موريتانيا. وهو في طريقه إلى بلاده، كان الاعتقال له بالمرصاد مرتين، أولاهما في السنغال، ثم لدى وصوله إلى موريتانيا. على أن التحقيق معه، الذي تمحور حول عملية الألفية، لم يثبت أي صلة له فيها، وأطلق سراحه مجدداً. بعدها حصل على وظيفة في شركة موريتانية، لكنه في 29 سبتمبر/ أيلول عام 2001، اعتقل مرة أخرى وحقّق معه محققون أميركيون مدة أسبوعين. وما أن أطلق سراحه، حتى عاد واعتقل من جديد في 20 نوفمبر/ تشرين الثاني ورُحّل إلى غوانتنامو.

لجأ محرر الكتاب، لاري سيمز، إلى إلحاق النص بهوامش مفيدة تدعم ما يقوله صلاحي بالوثائق الرسمية المختلفة. ولهذا يمكن التعويل وبثقة على صحة ما كتبه صلاحي من عمليات التعذيب والإيذاء الجسدي والنفسي التي يشيب لها شعر الرأس. وهو يروي تفاصيل تثير الأسى والرعب والاشمئزاز، مثل عزله ولأسابيع في درجات حرارة باردة جداً، تعليقه في أوضاع بالغة الألم لساعة بعد أخرى، تغطيسه بالماء المثلج، انتهاك حرمة جسده، ضربه ضرباً مبرحاً وأيضاً إرغامه على تناول كميات كبيرة من الطعام ثم إجباره على شرب ماء مملّح ليتقيأ كل ما أكله. ويشير صلاحي أيضاً إلى أنه عندما لجأ إلى الإضراب عن الطعام قيل له وبالألفاظ النابية إنك: "ستطعم من فتحتك الخلفية". ثم أرغم بعدها على ما وصفه تقرير للجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ، صدر في العام الماضي، بـ"التغذية عن طريق الفتحة الشرجية"، وهي ممارسة كشف التقرير أنها كانت شائعة في المعتقل.

كتب صلاحي مذكراته بالإنجليزية التي تعلّمها من سجانيه في غوانتنامو. رغم ذلك، فإن لغته واضحة ونصه يدلّل على كاتب موهوب صاحب قلم دافق يمتاز بالفكاهة والسخرية حتى في أحلك اللحظات. يرد صلاحي على رسالة لمحرر كتابه بقوله: "تطلب مني أن أكتب كل ما قلته للمحقيين معي (...)، كيف يمكن أن أقصّ عليك سلسلة من التحقيقات الماراثونية التي ما زالت جارية منذ سبع سنوات؟ إنك بسؤالك هذا كمَن يطلب من تشارلي شين أن يخبره عن عدد النساء اللاتي واعدهن". وهو بالطبع يشير إلى الممثل الأميركي المشهور بغرامياته المتعددة. ويقول في موضع آخر: "مثلما توعدني، سحبني (...) في وقت مبكر من النهار. وحيداً في زنزانتي، تملّكني الرعب لدى سماعي صريخ الحراس من خلف الباب وهم يحملون قيوداً حديدة (...). كاد قلبي يقفز من بين ضلوعي لأني دائماً ما توقعت الأسوأ. كنت ممنوعاً من رؤية الضوء وأشعر "بالفرح" عندما أستمتع برؤية الضوء خلال رحلتي القصيرة من زنزانتي الباردة إلى غرفة التحقيق. عندما تتساقط على جسدي شمس المعتقل أشعر وكأني في النعيم. أحس وكأن الحياة تتسلّل إلى كل خلايا جسدي من جديد".

تمتاز "مذكرات غوانتنامو" بحس إنساني رفيع، فصاحبها لا ينسب الإنسانية لنفسه ويجرد حراسه ومحققيه منها. وهذا لا يعني بحال أنه يعذرهم في ما يفعلونه، ولكنه يقدمهم لنا بصفتهم شخصيات مركّبة تختلط فيها الطيبة بالقسوة والشر بالخير. يتساءل: "أدري أنه ليس هناك من إنسان كامل وكلنا نجترح الخير والشر. لكن السؤال المهم هنا هو قرارنا في ارتكاب خير أكثر أم شر أكثر". صلاحي لا يفكر بعقلية الحقد والانتقام، ولا يحتكر دور الضحية والمجني عليه ويرمي سجانه بالشر المطلق. كما لا يحاول أن يتخذ من جرائم أعدائه بحقه برهاناً على فضيلته. وهنا بالذات تنتصر فيه الإنسانية. يروي لنا أن أحد حراسه، وقبيل تركه للمعتقل، جلب له هدية وداع وهي نسخة من كتاب برفقة حارسين آخرين. كتب له هؤلاء السجانون عبارات عدة تقول إحداها: "أتمنى لك حظاً طيباً، فقط تذكّر أن الله دائماً له حكمة من كل شيء. أعتقد أننا أصبحنا أصدقاء". وكتب آخر: "على مر الأشهر العشرة الأخيرة، بذلت ما في وسعي للتقيّد بعلاقات السجان بالسجين معك، لكنني أخفقت أحياناً في ذلك. إنه لمن المستحيل ألا يقع المرء في محبة شخص مثلك. ابقَ ثابتاً على إيمانك، فأنا على يقين بأنه سيقودك إلى الاتجاه الصحيح".

إحجام صلاحي عن احتكار الحق والصواب لنفسه، هو ما يجعل من "مذكرات غوانتنامو" أكثر من مجرد سجل للبشاعات ويضفي عليها قدراً من النبل والتسامي. إنه يرفض النظر إلى وضعه من خلال الثنائيات المضللة من أبيض وأسود أو خير وشر وحق وضلال، وبهذا فإنه يرتقي بنفسه فوق علاقات السجين بالسجان أو الغالب والمغلوب. إنه يقول: "قد يعتبرني البعض شخصاً ضعيفاً، حسناً وليكن!". وهو هنا يقر أن ما قد يبدو ضعفاً للبعض ما هو في الواقع إلا قوة عظيمة ومقدرة على فهم الذات والآخر بشكل إنساني سامي. إنه يستمد قوته الذاتية العظيمة من خلال رفض منطق العنف والعنف المضاد الذي يعصف بأجزاء واسعة من عالمنا.

"مذكرات غوانتنامو" أكثر من شهادة كاشفة عن جوانب الجنون المتصاعد جراء الرد والرد المقابل على سرطان العصر أو "الحرب على الإرهاب". وهي فصل مهم في سجل طويل يعري سوأة عالمنا المُتخبّط في الاهتداء إلى علاج لذلك الداء رغم ما أحرزته الإنسانية من تقدم على درب العقلانية والتحضّر. سطور صلاحي التي سجلها بمداد وجعه وظلمه، تدل ربما على الوجهة التي كان على عالمنا أن يسلكها في مواجهة التطرف والتطرف المضاد. إنها بلا شك ليست طريق بوش ورامسفيلد وتشيني، وهي قطعاً ليست سكة بن لادن والزرقاوي والبغدادي وسواهم. كل هؤلاء يدّعون أنهم على طريق الحق وأعداؤهم على طريق الباطل. أما صلاحي، ورغم كل ما تعرّض له من تعذيب وضياع على أيدي سجانيه، فإن إنسانيته المنتصرة لا تدّعي مثل ذلك الادعاء. وهو يدهش قارئه بقدرته على الحفاظ على عقله من سطوة الجنون وعلى صلابته والتسامي في مواجهة عنف وضيم ربما فوق الوصف. وهو يختم بتساؤل ثقيل: "هل نجحت الديمقراطية الأميركية في الاختبار الذي فرضته عليها هجمات ألفين وواحد الإرهابية؟ أترك الحكم على هذه المسألة للقارئ".

(كاتبة وصحافية فلسطينية)
المساهمون