مواهب وذكاءات الأبناء.. استثمار سليم أم استغلال ربحي

22 مارس 2015
اكتشاف الذكاءات يخضع لمعايير علمية وأخرى تلقائية (العربي الجديد)
+ الخط -
حالة من التردد تتبعها حالات من الهمة العالية، للبحث عن مركز هنا أو برنامج هناك، إعلانات في الصحف ومواقع الإنترنت، ورش عمل، وكثير من الاستفسارات والأسئلة.. مشاعر تستذكرها عائلة الطفل "عمرو هندية" من فلسطين، في محاولات للوصول إلى ما يمكن أن يتناغم مع رؤيتهم في استثمار طاقات طفلهم "عمرو" في مراحل عمره الأولى، ومحاولة توجيهها بالطريقة التي تمكنه من التميز عن باقي أقرانه في المجتمع. 

هذه المشاعر، وهذه الحالة، لم تعش تفاصيلها عائلة الطفل "هندية" وحدها، ولكنها تنتاب آلاف الأسر العربية التي تحاول تطوير رؤيتها لمستقبل أطفالها، في ظل عالم بات يعيش قفزات من التطوير العلمي والمهني والتكنولوجي، لتجد في برامج ومراكز اكتشاف المواهب والذكاءات المتعددة إجابات عن بعض تساؤلاتها، فيما لم تزل تبحث عن إجابات لتساؤلات أخرى، وهو ما تحاول "العربي الجديد" طرقه من خلال تقريرها.

يتحدث "رامي هندية" والد الطفل عمرو (10 سنوات) بالقول: "تعيش حالة من عدم التركيز في بحثك عن المراكز التي تهتم بالمواهب والذكاءات المتعددة، وهذا نابع من عاملين: أحدهما كثرة المراكز ومسمياتها، والثاني بيئة المجتمع والثقافة التي نعيش فيها، والتي يحاول الجميع تقديم مقترحاته ورأيه".
ويستذكر والد عمرو، بدايات مراحل اكتشاف ذكاء طفله، ويرجع ذلك إلى عمر 5 سنوات عندما لاحظ على طفله الاهتمام بتركيب الأشكال الهندسية، واهتمامه بالإلكترونيات، وهو ما دفعه إلى مراقبته بشكل مستمر، ومحاولة تنمية قدراته.

معايير عدة
معايير عدة دفعت عائلة الطفل هندية إلى الاستقرار على برنامج يمكن أن يلتحق به طفلها، يقول والده: "الاختيار ليس سهلاً، فعلى الرغم من أن العائلة قد تستطيع اكتشاف مواهب طفلها، إلا أنها في ذات الوقت تقع ضمن خوف وتردد نابعين من الحرص على الطفل، ومحاولة عدم وقوعه ضمن أطماع استغلال مادي من قبل بعض المراكز".
ليس ذلك فحسب، فالقدرة المالية لدى العائلة، والإمكانيات المتاحة لها، تجعلنا نطرح تساؤلات عن مدى إمكانية إلحاق الطفل بأي من مراكز اكتشاف الذكاءات أو تنميتها، أو حتى في التفكير في كيفية استثمار طاقات أطفالنا. يقول هندية إنه "بعد اكتشاف موهبة ابنه كانت هناك مفاضلة بين الإبقاء عليه في أحد البرامج الرياضية وبين إلحاقه ببرنامج الخوارزمي الصغير، فالإمكانيات لا تسمح بالمزاوجة بين أمرين".

المعيار الثاني، والذي يقدمه والد هندية، يتمثل في "مهنية المراكز القائمة على تنمية الذكاءات المتعددة، وهذه تستند إلى تطبيق الشروط السليمة في الحصول على التراخيص من الجهات ذات الاختصاص لممارسة مثل هذه الأنشطة".
ويرجع هندية أهمية التنبه لمثل هذه المعايير وغيرها إلى أن "الوعي بمفهوم تنمية واستثمار ذكاءات الأطفال لا تزال محدودة في مجتمعاتنا العربية، وقد تقتصر على العائلات المثقفة، أو المطلعة، أو ربما بعض المجتمعات التي تشعر باستقرار نفسي".

أنواع الذكاءات
لقاؤنا بعائلة الطفل هندية، مهدت لنا الطرق لقرع أبواب الأخصائيين والخبراء في مجال تنمية الذكاءات المتعددة واكتشافها، وهو ما حاولنا التعرف إليه من خلال زيارتنا لماجد القاضي، أحد الخبراء والمدربين في مجالات اكتشاف المواهب والتعامل مع ذكاءات الأطفال في فلسطين.
يقول القاضي، هناك أنواع متعددة من الذكاءات التي يمكن أن يتميز الطفل بأحدها، أو ربما يجمع بين أكثر من نوع من أنواعها؛ وتضم هذه الأنواع "الذكاء السمعي، أو ما يمكن أن يسمى بالنغمي، وهو مرتبط بالأذن والاهتزازات الصوتية التي يمكن أن يتفاعل معها الطفل، وهذا ما يميز بعض الأطفال عن غيرهم من خلال إحساسهم السمعي وتذوقهم لبعض الأصوات، وبالتالي منحهم تفوقا في هذا الجانب مستقبلاً".

أما النوع الثاني، فيتمثل في "الذكاء الاجتماعي، والقدرة على نسج العلاقات الاجتماعية، وهو ما يمكن الطفل من أن يكون مألوفاً عند تواصله مع الأشخاص الآخرين، وتفتح أمامه قدرة القرب من الجميع". كما يوضح القاضي.
في حين يتمثل النوع الثالث في الذكاء "الرياضي أو الحركي، وهو ما يؤهل مشاهير الرياضة والألعاب من البروز والتفوق على الكثير من أقرانهم". أما النوع الرابع، فيتمثل في "الذكاء اللغوي"، الذي يوضحه الخبير القاضي بأنه "الذكاء الذي يؤهل صاحبه للتعبير عن رسالته التي يرغب في تقديمها، سواء عن طريق إلقاء الشعر أو النثر أو الخطابة"، وهذا النوع هو ما يميز "المذيعين ومقدمي البرامج في الإعلام المشهورين عن غيرهم من العاملين في نفس الإطار".

أما النوع الخامس من الذكاءات، فهو الذكاء العلمي أو الحسابي، المرتبط بالعمليات الحسابية والمعادلات والأرقام، وهذا ربما الأكثر شيوعا لدى عامة الناس، كما يوضح الخبير القاضي، حيث ترتبط في ذهنية العائلات عند الحديث عن ذكاء أطفالهم بالذكاء العلمي الحسابي.
ويأتي "الذكاء الشخصي" الذي يتمثل في "الاهتمام بالذات والمظهر واللباس، النوع السادس من أنواع الذكاءات. فيما يتمثل النوع السابع في الذكاء "الطبيعي"، وهو ما يميز قدرة الطفل على الانجذاب للطبيعة بما تتضمنه من جمال وقدرة على استخدام الطبيعة لاستخراج ما بداخله، وهذا النوع يستوحى من الطبيعة ذاتها وتذوقها بشكل يختلف عن باقي الأشخاص.

وحول إن كانت هذه الأنواع من الذكاءات يمكن أن تجتمع في شخص واحد، يشير الخبير القاضي إلى "صعوبة ذلك، وهذه إحدى سنن خلق الإنسان التي ميز بها الله عز وجل كل إنسان عن غيره، وعدم تكاملية شخص واحد بكل المواصفات والمعايير".

آليات الاكتشاف
اكتشاف المواهب والذكاءات يخضع لآليات تنقسم ما بين "الآليات المنهجية العلمية"، وآليات "طبيعية تلقائية"، وهو ما يفسرها الخبير القاضي بالقول "إن الآليات المنهجية لاكتشاف ذكاءات الأطفال تكون مبنية وفق البرامج والأسس العلمية التي أثبتتها الدراسات، وهي أشبه بفحوصات يخضع لها الطفل".

وهذا النوع من آليات اكتشاف الذكاءات يتم من خلال "تعريض الطفل لأجواء الذكاءات المختلفة، لمعرفة ميوله أو انسجامه مع نوع معين، وتوفير البيئة التي بها خصائص تجمع أنواع الذكاءات، ومن خلال هذا التعريض يتم التعرف إلى نوع الذكاء الذي يميز طفلا عن غيره".
وفي هذا السياق، ترى الدكتورة منى يسري، الطبيبة النفسية، والمستشارة العائلية من مصر، أن "الشائع في المجالات التعليمية هو قياس كل الأطفال بنفس المقياس على نوع محدد وواحد من الذكاء، وهو الذكاء الأكاديمي، بمعنى قياس القدرة على تحصيل مواد ثابتة بطريقة موحدة".
إلا أن هذا الأسلوب، وبحسب الدكتورة منى، "أثبت أنه ظالم لكثير من الأطفال، فالمستفيد الوحيد منه هو الطفل ذو الذكاء اللغوي والذكاء المنطقي؛ وبالتالي معظم المدارس تتبع أسلوب تدريس موحدا، وكأن كل الطلاب يمتلكون نفس البنية العقلية وأسلوب التفكير وطريقة الاستيعاب".

ويتفق الأستاذ مخلص سمارة، مدرب التنمية البشرية، مع الدكتورة منى، في أن آليات الاكتشاف المنهجي المبنية على دراسات أكاديمية، قد لا تمنح الدقة الحقيقية في تحديد نوع الذكاء الذي يبرز عند بعض الأطفال دون غيرهم.
فهذه المعايير، كما يرى سمارة، يمكن أن تطبق بشكل مثالي على الأطفال الذين يعيشون في بيئات وضمن ظروف ثابتة، حيث يمكن أن تكون نتيجة هذه الاختبارات مختلفة في حال التعاطي مع أطفال يعيشون ضمن بيئات ذات ظروف مختلفة، أو تعرضوا لظروف غير تلك التي عايشها الأطفال في بيئات أخرى".

ويعزز سمارة ذلك من خلال التطرق إلى "دور البيئة والتربية والمحيط والثقافة والحالة المادية للعائلة التي يعيش ويتربى فيها الطفل، وكيف يمكن أن تلعب كل هذه العوامل دوراً في تعزيز أنواع من الذكاء، بينما يمكن أن تختلف عند أقرانهم من الأطفال الذين نموا في بيئات مختلفة".

أما النوع الثاني من آليات اكتشاف ذكاءات الأطفال ومواهبهم، فهو الآليات "غير الممنهجة"، وتتمثل في "اكتشاف مواهب الأطفال من خلال ميولهم تجاه أشخاص أو أماكن أو موضوعات بعينها، وتركيز اهتمامهم عليها بشكل ملفت، وهذا قد يتم اكتشافه من خلال متابعة الأهالي أو المدرسين"، وفقا للخبير ماجد القاضي.

وفي هذه الحالة، يوضح الخبير القاضي أن الأطفال قد يظهرون "مبادرة ذاتية من تلقاء أنفسهم، وإظهار إمكانياتهم الذاتية، بحيث يقدم الطفل نفسه بطريقة أو بأخرى تبرز نوع الذكاء الذي يتصف به". كما أن هذا النوع من الاكتشاف للذكاءات قد يكون "نتيجة حدث معين أو صدمة يتعرض لها الطفل في حياته، وبالتالي يتفاعل معها بطريقة ملفتة تكون بداية اكتشاف نوع من الذكاء عنده".
وترى الخبيرة المصرية الدكتورة منى يسري، أنه رغم وجود مراكز وأدوات لتشخيص نوع الذكاء لدى الطفل حتي يهتم به الأهل والمدرسون، إلا أن أكبر "فائدة ليست في تشخيص نوع ذكاء الطفل، ولكن في تطوير مناهج التعليم لتشمل كل أنواع الذكاءات، فيستفيد كل الطلاب من أساليب تعليمية مبتكرة وغير تقليدية".

وتضيف بالقول: "إن اكتفينا بتحديد نوع ذكاء الطفل وحصره في إطار واحد، لن يكون في مصلحته، فمن أهم ما تعلمته كأخصائية أطفال أن لا نضع الطفل أبدا في أي نوع من أنواع الإطارات، ويجب فتح الأفق باستمرار أمامه، ليكتشف مهارات وذكاءات غير متوقعة".

حَرف الذكاء
الذكاء أو الموهبة كالسكين، يمكن أن تستثمر في جوانب إيجابية، ويمكن أن تتحول إلى "أداة مؤذية"، هكذا لخص الخبير ماجد القاضي، ما يمكن أن يطلق عليه "حرف الذكاء من ذكاء إيجابي إلى سلبي"، ويشير إلى أن هناك عملية تعزيز وتطوير للذكاء باتجاه ما، وهذه طريقة صحيحة لتوجيه الأطفال تجاه تعزيز نوع من الذكاء متوفر لديهم.
أما الطريقة الأخرى، وهي عملية الحرف السلبي للذكاء تتمثل، وفقا للقاضي، في محاولة "استغلال ذكاء الطفل في تنمية النزعة السلبية في المجتمع، وما يمكن أن يمثل هذه الحالة في عمليات النصب والاحتيال، أو القرصنة، أو غيرها الكثير من السلوكيات السلبية التي تنطلق في أساسها من حرف ذكاء الطفل وعدم توظيفه بشكل سليم".

والعوامل التي من شأنها أن تدفع باتجاه "انحراف ذكاء الأطفال، قد يكون نتيجة سوء تقدير من العائلة أو المجتمع أو البيئة والمحيط، هذا بالإضافة إلى طبيعة الظروف الاقتصادية والقوانين السياسية التي تمارس على المجتمع الذي يوجد فيه الطفل".
بدورها، توضح الدكتورة منى أن "العامل الرئيسي في كبت مواهب الأطفال وعدم اكتشافها، هو عدم إعطاء الطفل فرصة حرية الابتكار والتفكير بطرق مختلفة غير الطرق التي يراها المعلم. فكم من علامة خطأ على إجابة صحيحة منطقياً، ولكن غير مطابقة لإجابة المعلم النموذجية"، وهذا ينطبق بشكل كامل على التعامل مع أنواع الذكاء التي تبرز لدى الأطفال، إلا أن طريقة التعاطي معها من شأنها أن تعمل على "كبت ذاتي للطفل، وبالتالي تحول الأمر إلى جانبه السلبي".

ويرى الخبير ماجد القاضي أن هناك نوعين من المعيقات، التي قد يصطدم بها اكتشاف المواهب والذكاءات؛ يتمثل النوع الأول في المعيقات التي "تحول دون اكتشاف الذكاء في الوقت المناسب، وتأتي هذه المعيقات كنتيجة لأنظمة ومناهج تعليمية دراسية، أو أنظمة سياسية، أو البيئة، أو تعاطي الأسرة والمجتمع".
في حين يتمثل النوع الثاني من المعيقات في "معيقات تقتل الذكاء بعد اكتشافه، وهذا النوع يأتي كنتيجة تقليل من قيمة الذكاء والمهارات، والسخرية وعدم التقدير، أو من خلال إغلاق الأفق أمام تحقيقه، وهو ما يولد حالة اليأس".

استغلال تجاري
إلا أن الأكثر خطورة على الذكاءات والمواهب في المجتمعات العربية بشكل خاص، يتمثل، وفقا لما يراه القاضي، في تحولها إلى نوع من "الاستغلال التجاري"، وهذا يظهر من خلال انتشار العديد من البرامج والمراكز في البلدان العربية التي تكون قائمة على فكرة التسويق التجاري أكثر من الاهتمام بتنمية واكتشاف الذكاءات.

وهنا يطالب القاضي بضرورة أن يكون هناك جانبان من شأنهما استثمار طاقات الأطفال: يأتي الأول من خلال دور الأسرة في متابعة الأطفال واكتشاف مواهبهم، والعمل على تنميتها ورعايتها بالشكل الصحيح. أما الجانب الثاني فيأتي بتحويل جميع المراكز ذات الاهتمام بالذكاءات العقلية إلى "مؤسسات وطنية تقدم الخدمات مجاناً لكافة أطفال المجتمع، بحيث تكون مدعومة من الدولة، وهو ما يحول دون استغلال هذا الجانب بطريقة التربح المالي".

وتتلاقى هذه الدعوة مع مطلب الدكتورة منى يسري التي تطالب بضرورة أن يتم تطوير مناهج التعليم لتشمل كل أنواع الذكاءات، فيستفيد كل الطلاب من أساليب تعليمية مبتكرة وغير تقليدية.

المساهمون