مواطنو الجزيرة أو مواطنو العالم

10 يوليو 2016
+ الخط -
سوف نحتاج وقتاً طويل للإفاقة من الصدمة الأولى لتصويت غالبيّةٍ ضيقةٍ من البريطانيين لصالح الخروج من الإتحاد الأوروبي، بما يحمل التصويت من إشاراتٍ إنسانية، تتجاوز أهمية الأزمة الاقتصادية المتفاقمة. بين المصوّتين للبقاء والذين اختاروا الانفصال فراق بين مواطنة عالمية عابرة للحدود، يتمسّك بها رواد الاختبار والتمازج والمجازفة، ومواطنةٍ محلية ضيقة الآفاق للجزيرة الصغيرة المصونة بسياجٍ عازل من اللغة والتاريخ والدين والتقاليد. المواطن الذي ولد في بريطانيا، ويريد أن يعيش في بريطانيا، وأن يموت في بريطانيا، كما يقول أحد شعارات حملة اليمين المتطرف المعادي لأوروبا. تختصر صورة سائق سيارة الأجرة، وهو يرفع العلم البريطاني، احتفالاً بالفوز غداة التصويت السلبي، مفهوم المواطنة الضيقة التي تريد أن تمارس هويةً صافيةً، لا يهدّدها اختلاف أو تنوّع.
ليست المواطنة الضيقة العازلة للآخر حكراً على بريطانيا، وليست وليدة الاستفتاء. "المواطنون الشرفاء" في كل مكان. في مصر، يتولى هولاء ردع أي محاولةٍ لخرق الصوت الواحد في الشارع والسياسة والإعلام. في لبنان، تطبق إجراءات عنصرية غير مسبوقة في التعامل مع مخيمات اللاجئين السوريين عبر الإغلاق، وتقييد حركة المقيمين فيها، وحملات التوقيف العشوائية باسم مكافحة الإرهاب وسط تأييدٍ أو أقله صمت. أبشع أنواع العنصرية تصبح مقبولةً عند العامة والنخبة على حد سواء، باسم الأمن الوطني. يُنعت معارضو الرئيس المصري بلقب "ٌأهل الشر"، كما صنفهم في إحدى مقابلاته، وهو وصف بات الإعلام المحلي يردّده باعتباره واقعاً. ليس من باب المصادفة أن يصرخ قاتل النائبة العمالية، جو كوكس، "الموت للخونة" في أول مثول له أمام المحكمة. الشعار نفسه يردّده "المواطنون الشرفاء" في حضورهم المدفوع الأجر لمحاكمات "أهل الشر" من حقوقيين وصحافيين وناشطين ومعتقلين سياسيين في مصر.
سيطر خطاب الربح والخسارة على الحملات السياسية والتغطية الإعلامية للاستفتاء الأوروبي، إلا أن التغطية الإعلامية تحوّلت إلى ما يشبه المبارزة بين الأكثر قدرةً على تحريك مشاعر الناخبين البريطانيين المشهورين عادةً بالبرودة والعقلانية. كيف تحوّلت ثقافة المنطق (common sense) العريقة لدى البريطانيين إلى سباقٍ على التخلي عنها: فعل التباين الطبقي والتعليمي بين البريطانيين فعله، إلا أن الشهادات التي نشرها الإعلام البريطاني لتجارب كارهي الاتحاد الاوروبي أشارت، في معظمها، إلى عامل غالب: إنه خطاب الشوفينية الوطنية وحلم السيادة المطلقة الخالصة من أي تأثير خارجي. أظهرت نتائج استفتاء الانفصال عن الاتحاد الأوروبي السحر الخاص لشعارات الشوفينية الوطنية، العاطفية الساذجة في حدّها الأدنى، والهستيرية الفاشية في حدّها الأعلى، لدى فئةٍ واسعةٍ من المصوتين، ليس فقط المحرومين من التعليم والبحبوحة. تمكّن السحر من عبور الطبقات الاجتماعية، بمن في ذلك أبناء المغتربين. يصعب مقارعة سحر هذا الخطاب وجاذبيته لدى الباحثين عن طمأنينة الهوية في وجه "مخاطر" الخارج ومخزون الخيبات الشخصية على حد سواء. لا يضاهي خطاب الشوفينية الوطنية وهجاً سوى خطاب التكليف الديني الذي يرسم بدوره حدوداً فاصلة بين الصالح والطالح، بين المقبول في المجموعة والخارج عنها.
استعاد خطاب الخصوصية المحلية بريقه مع تراكم خيبات الربيع العربي، ليتحوّل الاحتفال
بالمحلي والوطني إلى مناسبةٍ لرفض الإقليمي والعالمي، بوصفه اجتياحاً خارجياً وتهديداً للهوية الخاصة. إذا كان الاحتفال بالخصوصية، هنا، وثيق الصلة بأزمات الانتقال الديمقراطي وسقوط العملية في العنف، أو في أنماط أشدَّ بشاعةً من الديكتاتورية، فإن توافر هذا المناخ من التذبذب ليس شرطاً ضرورياً لصعود نجم هذا الخطاب. أثبت الاستفتاء على الخروج من الاتحاد الأوروبي في بريطانيا أن خطاب الفاشية "الوطنية" لا يقلّ سطوةً في دولة القانون والمؤسسات، حيث يقوم الإعلام بدوره في تمثيل مختلف وجهات النظر، ويقدّم خطاباً متوازناً وعقلانياً إلى حد كبير، إذا ما استثنينا الصحافة الشعبوية الصفراء.
ليس من المستغرب أن يكون التعبير الأكثر بروزاً للمنتصرين في التصويت سلسلة من الاعتداءات على المجموعات الإتنية على مثال شتم أفرادٍ في وسائل النقل العام، وتوقيف مارّة في الشارع، لسؤالهم عن هوياتهم وتحطيم زجاج مطاعم تركية وإسبانية في أحد أحياء لندن، وإرسال بطاقات عنصرية إلى عائلات بولندية، وكتابة شعارات وشتائم ضد المسلمين على باب منزل عائلة مصريةٍ بالقرب من مدينة كارديف، في حالاتٍ غير مسبوقة في البلاد وإنْ محدودة. القاسم المشترك لهذه الاعتداءات هو صراخ المعتدين، وغالبيتهم العظمى من الشبان صغار السن، في وجه المغترب أو "الدخيل": اذهب إلى بلدك".
قرّرت غالبية من البريطانيين عدم الاستماع إلى صوت المنطق. قدّم الخبراء كل المعلومات والأرقام المطلوبة، لإثبات المخاطر والخسائر من الخروج من الاتحاد الأوروبي. والأهم من ذلك كله، لم يقدّم الجانب الآخر أي خطةٍ لكيفية مواجهة أزمات ما بعد الانفصال. على الرغم من ذلك كله، سقطت أرقام الخبراء في مقارعة خطاب شعبوي عاطفي، تمكّن من استثمار أوهام الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس: استعادة السيطرة على البلاد، استعادة الحرية من قيود البيروقراطية الأوروبية، بريطانيا للبريطانيين... لم يتراجع الهوس الهوياتي بعد الجريمة المروعة لقتل النائبة العمالية التي كانت صوتاً بارزاً في الدفاع عن بريطانيا منفتحة على العالم، وأكثر إنسانيةً في التعاطي مع أزمة اللاجئين السوريين.
في دولة القانون، كما في جمهوريات الموز، لا شيء يضاهي جاذبية الأعلام الوطنية يلوّح بها "وطنيون" منتشون بسحر مواطنةٍ نسجوها على مقاسهم وحجمهم، مسوّرة بجدار عازل ضد الاختلاف. لا هواء يتسّرب من النوافذ المغلقة بإحكام. فلنختنق إذن.
A6CF6800-10AF-438C-B5B5-D519819C2804
فاطمة العيساوي

أستاذة لبنانية في جامعة إيسيكس البريطانية. ترأست بحثا في تأثير عملية الانتقال السياسي على الإعلام المحلي في دول الثورات العربية. صحافية مستقلة ومدربة وخبيرة في التشريعات الاعلامية في العالم العربي.