مواجهة داعش.. دول راعية وداعية وداعمة
سماء السياسة الدولية الملبدة بالغيوم تمطر مؤتمراتٍ حاشدة ضد إرهاب داعش، فقد عُقد مؤتمران كبيران في دولتين، عربية وغربية، بينهما ثلاثة أيام، تباعاً في جدة وباريس. وجاء الأول في توقيت له دلالته المهمة للدولة الراعية (الولايات المتحدة الأميركية)، والدولة الداعية (المملكة العربية السعودية)، وللدول الداعمة، من أكثر من زاوية، وليحمل معه مفارقات مربكة عديدة.
عُقد يوم 11 سبتمبر/أيلول، وهو يوم يذكّر بأن الدولة الراعية عانت في مثيله عام 2001 من هجمات انتحارية، بطائراتٍ مدنية على منشآت ضخمة مهمة، تمثل رموزها السياسية والاقتصادية والعسكرية، نفذها 19 انتحارياً ينتمي 15 منهم للدولة الداعية. وكانوا من تنظيم القاعدة الذي تعاونت الدولتان في تأسيس نواته في أفغانستان، قبل نحو ثلاثة عقود، في مواجهة الاحتلال السوفييتي، وقبل أن تصبحا هدفا لهجمات "القاعدة".
يتم استنساخ القصة بالمشاهد نفسها، مع استبدال العراق بأفغانستان. وهذه مفارقة أخرى، مثيرة للشبهة والحيرة، وتدعو إلى التأمل والحذر، فتنظيم داعش الذي تنادت الدولتان، ومعهما دول داعمة كثيرة، لدحره، وإيقاف تقدمه في العراق وسورية، أحاط صعوده علامات استفهام، ما يبرر القول إنه صنع مخابراتي دولي، هدفه الإساءة للثورات العربية في الضمير العالمي. فهذه التنظيمات المسلحة، مثل القاعدة ووليدها داعش، خفت دورها وتضاءل، إلى حد الاختفاء، في أثناء الثورات البيضاء والتي أظهرت تمدن الشعوب العربية، ولا سيما في مصر وتونس، وترك هذا أثراً طيباً لدى الرأي العام العالمي، ومن مصلحة الدوائر الصهيونية والمسيحية الصهيونية أن تطمس هذه الصورة الناصعة للعرب والمسلمين، بصنع هذه المجموعات المسلحة، أو، على الأقل، ترك المجال لها للنمو المحسوب، ولا مانع من توجيه ضرباتٍ محسوبة لها، للإيهام بأن الغرب ضدها. إنها سياسة الفوضى الخلاقة المجرمة.
ومواجهة إرهاب داعش مطروحة منذ أكثر من عام، وعقد بشأنها مؤتمر دولي في بغداد في مارس/آذار الماضي، ولم يكن الموقف، في حينه، قد تبلور، أو حسم، بشأن التعامل مع هذا الملف، فأحجمت الدولة الداعية لمؤتمر جدة عن حضوره، لا سيما على خلفية اتهامات نوري المالكي لها بالضلوع في دعم التنظيم، وتلك مفارقة أخرى.
كيف لتنظيم لا يملك سوى بضعة آلاف مقاتل، أن يتمدد على الأرض بهذه السهولة، ويجتاح، من دون مقاومة، مساحات شاسعة من الأراضي العراقية، منها الموصل ثاني أكبر مدن بلاد الرافدين، ويواصل امتداده إلى مساحاتٍ أخرى في سورية، في مشهدٍ يذكّر بالاجتياح السلس للقوات الأميركية الغازية لبغداد. والأمر، هنا، لا يقتصر على تمويلٍ من دولة ما، لأن التمويل يحتاج دعماً لوجستياً وبشرياً على الأرض، وقد فجّر وزير العدل في حكومة نوري المالكي المنصرفة، حسن الشمري، فضيحة مدوية بتأكيده أن أعدادا كبيرة من قادة داعش تم تسهيل تهريبهم من سجني أبو غريب والتاجي، بواسطة الحكومة العراقية نفسها، وثيقة الصلة بواشنطن وطهران.
هذه الأمطار الثلجية من مهرجانات مؤتمرات مكافحة الإرهاب صنعت جبلاً ثلجياً ضخماً في المياه السياسية المتلاطمة في المنطقة العربية، والغاطس من هذا الجبل أكبر بكثير من الطافي على السطح، إذ كيف يعقل أن تتنادى عشرات الدول، تتصدّرها الدول الكبرى ودول إقليمية محورية، لمجرد مواجهة تنظيم مسلح، بل يجري الحديث عن أن هذه المواجهة ستستغرق شهوراً، وربما سنوات.
وهذا التحالف الدولي الموسع الذي يتم تصويره بأنه يهدف إلى نزع أنياب الإرهاب الداعشي من الجسدين، العراقي والسوري المنهكين، يحمل تناقضات كثيرة بين الداعين والداعمين له، وتتضارب بينهم الدوافع والمصالح. وتفاصيل كثيرة عن أدوار كل منهم في التمويل والتسليح والاستخبارات وتوفير قوات مشاة، في ظل إعلان واشنطن عدم الزج بجنودها في عمليات برية. والفضاء العربي يحمل رياحاً خماسينية مغبرة عاتية تعوق الرؤية، والخريطة العربية مهيأة للعب فيها، بترتيبات وتقسيمات جديدة خبيثة، في ظل تداعيات الثورات العربية الجريحة والمؤامرات التي حيكت ضدها، غربياً وعربياً، والكيانات المشبوهة التي تم زرعها، من داعش وجبهة النصرة وأنصار بيت المقدس وأخواتها.