الباحثون عن الفردوس الأوروبي، من المهاجرين، باختلاف جنسياتهم العربية والأفريقية مع الإيرانيين والأفغان والباكستانيين، يجتمعون في واقع مأساوي واحد في اليونان، بينما ترفض الدول الأوروبية الثرية استقبالهم
يعيش المهاجرون الآتون إلى اليونان عبر البحر الأبيض المتوسط وبحر إيجة في خيام، وشوادر، بين أشجار قريبة من مراكز استقبال رسمية، لم تعد تتسع في الأصل لتلك الآلاف منهم. فالمركز في ساموس، مثلاً، مخصّص لـ650 شخصاً كأقصى حد، لكنّه اليوم يضم نحو أربعة آلاف، كباراً وصغاراً. وفي ليسبوس أكثر من 11 ألف إنسان في مركز مخصص لثلاثة آلاف فقط. بالرغم من ذلك، لا يبدو أنّ هؤلاء يواجهون واقعهم المشترك معاً، بل، إلى جانب البحث عن حلّ فردي للخروج من هذا الواقع، ثمة ما يشير إلى تكتلات أشبه بالعنصرية، وشجارات وحوادث عنف وتحرش واعتداءات جنسية، وهو ما لا يستثني الإيراني والأفغاني والعربي والأفريقي، وجنسيات شتى جمعتها أحلام غد أفضل وفرّقتها عصبيات قومية، ودينية ومذهبية أحياناً، وإن كانوا يمضون إلى أوروبا العلمانية التي لا تسمح بكلّ هذا على أراضيها.
صحيح أنّ اتفاق تركيا والاتحاد الأوروبي لوقف تدفق المهاجرين نحو الجزر اليونانية في مارس/ آذار 2016 سجّل نجاحاً عملياً، تبينه أرقام تراجع وصول مراكب التهريب في بحر إيجة من 856 ألفاً في 2015 إلى نحو 32 ألفاً في 2018، لكن، منذ بداية الصيف الجاري 2019، عاد التدفق إلى الارتفاع، ومعه عاد التوتر التركي - الأوروبي بشأن الالتزام ببنود ذلك الاتفاق. ففي الأسبوعين الأخيرين من أغسطس/ آب الماضي وصل 8100 مهاجر إلى مختلف الجزر اليونانية. ويعاني هؤلاء أوضاعاً مزرية بعد نقلهم إلى مدن البرّ اليوناني خصوصاً، إذ يعيشون في مراكز مكتظة ظروفها سيئة، أو في الشوارع والساحات، في العاصمة أثينا وفي سالونيك وغيرهما من المدن التي تنشط فيها حركة تهريب أو وعود للوصول إلى وجهات أوروبية أخرى، مقابل أموال، ووعود زائفة حول نية هذه الدولة أو تلك "استقبال نحو 500 ألف أفغاني" كما يشاع بين الأفغان عن ألمانيا التي تشعر بقلق من التدفق الجديد إلى الجزر اليونانية وما يرافقه من أخبار زائفة تفيد بأنّ "برلين تمنح كل وافد جديد 2000 يورو كمصروف أولي".
وبحسب أرقام المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين فإنّ 56 ألف طالب لجوء ممن وصلوا إلى الاتحاد الأوروبي (في ما عدا اليونان) خلال الأشهر الماضية من العام الجاري "وصل نصفهم من الجزر اليونانية". وكانت أنقرة قد أعلنت أنّها أحبطت في شهر أغسطس/ آب الماضي وحده وصول 7 أضعاف ذلك الرقم عبر بحر إيجة. وبالرغم من ربط تزايد أعداد الفارين نحو اليونان بمعارك في شمالي حماة وجنوبي إدلب السوريتين، فالملاحظ أنّ غير السوريين هم الذين يصلون مؤخراً إليها، خصوصاً الأفغان.
ليسبوس
يعيش على الجزر اليونانية نحو 40 ألف مهاجر في أوضاع لا تقل سوءاً عن أوضاع هؤلاء الذين في البرّ اليوناني. ولعلّ وصف "تراجيديا" الذي تستخدمه المنظمات الحقوقية والإنسانية في وصفها أحوال من هم في مخيم موريا، الذي كان سابقاً عبارة عن ثكنة عسكرية يونانية فوق جزيرة ليسبوس، يختزل نوعاً ما الواقع الذي يعيشه عشرات آلاف من جنسيات مختلفة يعيشون على الأرض اليونانية في انتظار المجهول، وفي تجمعات تشبه الحالة البدائية التي يعيشها سكان الخيام بين أشجار كاليه الفرنسية، بينما يحاولون عبور المانش إلى بريطانيا، أو كالحياة في ما يطلق عليه "مخيم العار" بالقرب من الميناء الفرنسي في دونكيرك.
وفقاً لمنظمات خيرية وغير حكومية أوروبية تساعد المهاجرين فإنّ الأوضاع "لم تعد محتملة في مخيم موريا على جزيرة ليسبوس (وهي الجزيرة التي استقبلت نحو 332 ألف مهاجر عام 2015)، إذ بات يكتظ الآن بـ11 ألف إنسان، فيما بنيته الأساسية لا تتحمّل أكثر من ثلاثة آلاف". في هذا السياق، يذكر لـ"العربي الجديد" عضو البرلمان الأوروبي، نيكولاي فيلموسن، أنّه بعدما زار وعدداً من زملائه المخيم، أنّ "وضعه مأساوي يشبه الجحيم، خصوصاً حين تفكر بأكثر من 1000 قاصر بلا مرافقين موجودين بين هذا الحشد الضخم من البشر من جنسيات مختلفة، ونعتقد أنّه يجب أن يقفل موريا وينقل الأشخاص إلى أماكن تليق بالبشر، ريثما يبت أمرهم. أوروبا تتحمل مسؤولية أخلاقية تجاه هؤلاء المهاجرين، وكذلك اليونانيون".
وبينما يغرق كثيرون في الطريق إلى اليونان، فإنّ وضع من يصلون يماثل رحلتهم خطورة، إذ يقع كثير من الحوادث المأساوية في اليونان، تودي بحياة البعض، كما حدث مع مراهق أفغاني قتل نهاية الشهر الماضي أثناء شجار. وفي ظل غياب كثير من الخدمات الأساسية، يتعارك الناس على أيّ شيء. وكانت منظمة "يونيسف" قد عبّرت في بيان يوم 29 أغسطس/ آب الماضي عن خشيتها على أوضاع وحياة "نحو 1100 من الأطفال المهاجرين غير المصحوبين بذويهم في مخيمات مكتظة وخطرة، وبعضهم موجود منذ بداية 2016". وحثت المنظمة الدول الأوروبية على فعل المزيد لحماية هؤلاء الأطفال. وذكرت المديرة الإقليمية في "يونيسف" أفشان خان أنّ "أطفالاً كثيرين تعرضوا في مخيم موريا للعنف وقتل أحدهم (المراهق الأفغاني)". وصفت خان واقع هذا المخيم بأنّه مأساوي وعلى حافة الانهيار كنقطة استقبال.
ساموس
وإذا كان مخيم موريا لا يخلو من مآسٍ يومية، بما فيها العراك على طابور الطعام، وأحياناً تنشب شجارات بسبب خلاف بعض الجنسيات بعضها مع بعض، فإنّ واقعاً مأساوياً آخر يعيشه نحو 4 آلاف في جزيرة ساموس السياحية، والأقرب إلى تركيا، والذين يعيش كثيرون من بينهم خارج حدود المركز الرسمي لاستقبال المهاجرين والذي يتسع لـ650 شخصاً في الأساس، وذلك "بين الجرذان والأفاعي وبنات آوى، التي تنتشر بفعل تراكم القمامة، إذ يتخذون من المناطق الحرجية بين الأشجار، التي يسمونها غابة، مأوى لهم في ما يشبه الخيام، ومن بينهم شاهدت أسرة أفريقية لديها صبي لا يتجاوز عامين، علماً أن لا خدمات ولا كهرباء ولا مياه في هذه الغابة"، بحسب ما يصف لـ"العربي الجديد" طارق ياسين، وهو متطوع عربي، جاء مع بعض زملائه الأوروبيين، من دول عدة، لمساعدة مهاجري مخيم موريا، فلم يتمكنوا من فعل الكثير.
يتابع: "جئنا بعدها إلى ساموس لنكتشف واقعاً أفظع يعيشه البعض من جنسيات مختلفة، في صراع بقاء مستمر منذ ثلاثة أعوام وربما أربعة على الحال نفسها، وكل حديثهم هو عن الوصول إلى أوروبا، مشبعين بكثير من حكايات غير واقعية عن الحلم الأوروبي".
زميلة طارق الألمانية، آن، تذكر أيضاً أنّ ما رأته "لا مبالاة مرعبة، فهؤلاء يتحدثون بلغة: نحن ميتون على أيّ حال، حين كنا نشرح لهم مخاطر ما يفكرون به للوصول إلى البرّ الأوروبي تهريباً". يتعرض كثير من المراهقين غير المصحوبين بذويهم لاستغلال ممن هم أكبر سناً منهم "في أوضاع أشبه باستعباد واستغلال لا يمكن قبوله في أوروبا القرن الواحد والعشرين"، بحسب ما تصف آن لـ"العربي الجديد".
من جهته، استطاع الشاب التونسي رياض (22 عاماً) الخروج من ساموس "بعد سبعة أشهر من حياة قذرة وصلت بي إلى أثينا، وسأحاول من خلال عملي الآن في أحد المقاهي ليلاً أن أجمع كلفة الوصول إلى ألمانيا". يذكر رياض لـ"العربي الجديد" أنّه يريد السفر إلى ألمانيا تحديداً "لأنّني أجيد لغتها وأريد أن أدرس هندسة الميكانيك فيها. جربت بالطرق القانونية ولم أفلح، وحاول بعض الأصدقاء مساعدتي ففشلوا".
نصف المبلغ للأهل
ومثلما يحاط مخيم موريا في جزيرة ليسبوس بأسلاك شائكة يحدث الأمر نفسه في مخيم ساموس، ويمنع الموظفون فيه الصحافة من دخول المخيم، وضاعف وجود تجمع ومخيم لنحو أربعة آلاف مهاجر، على أطراف بلدة ساموس، من عدد سكان الجزيرة، التي لم تستطع بلديتها الصغيرة مجاراة هذا الواقع الذي يتكدس فيه الحالمون بالوصول إلى أوروبا، فبعضهم يرفض حتى البقاء والعيش في اليونان، ويتهرب كثيرون من التسجيل رسمياً في البلد خشية إعادت إليها من بلد الهدف، كألمانيا والسويد وفرنسا وبريطانيا وغيرها من الدول التي يطمحون في الوصول إليها. وفي عاصمتها أثينا، لا حديث لمن انتقل إليها من الجزر إلّا عن وسيلة الهجرة وخطط ووعود "يتعيش منها البعض على حساب آخرين مثلهم"، كما يصف الشاب رياض، المصرّ على أنّه لن يقع "في فخ أكاذيب المهربين، الذين للأسف من بينهم عرب يأتون من دول أوروبية للتربح على حساب مآسي الناس بطلب مبلغ مقدم قد يصل إلى 5 آلاف يورو والبقية حين يصل المهرب إلى وجهته، وقد يتجاوز مجموع المبلغ 15 ألف يورو بحسب الوجهة والطريقة".
وبمناسبة تأمين كلفة التهريب، فإنّ كلّ ما يحصل عليه اللاجئون المسجلون رسمياً لا يتعدى 100 دولار شهرياً. وهو مبلغ لا يكاد يكفي لشراء بعض الطعام، بينما يضطر البعض لإرسال نصف المبلغ إلى أسرهم، كما يفعل معظم الواصلين من غانا والكونغو الديمقراطية ودول أفريقية أخرى. وينتظر كثيرون، وهم الفئة الأضعف، موعد "المقابلة الأولى" لبحث طلب اللجوء عاماً أو عامين، وإذا ما رفض الطلب سيجد نفسه على متن باخرة تعيده إلى تركيا التي جاء منها إلى اليونان.
بدورها، تشير منظمات عديدة، من بينها "أطباء بلا حدود"، إلى أنّ "السنوات الماضية استمرت فيها أحوال المهاجرين في اليونان كما هي، لناحية القسوة وانتشار العنف والشجارات والاعتداءات الجنسية والأمراض، سواء داخل المخيمات أو خارجها، بسبب غياب الخدمات، خصوصاً المراحيض".
في الرابع من سبتمبر/ أيلول الجاري شهدت جزيرة ليسبوس صدامات بين نحو 300 مراهق غير مصحوبين بذويهم، والشرطة اليونانية، التي اضطرت لاستخدام قنابل مسيلة للدموع بعد هجوم نحو خمسين مراهقاً على رجال الأمن، عقب احتجاجهم على ظروف الاكتظاظ في مخيم موريا. ومعظم هؤلاء المراهقين هم من الأفغان، الذين أرادوا الانتقال إلى البرّ اليوناني مع أسر أفغانية جرى ترحيلها قبل ذلك بيوم نحو أثينا، ولم يسمح للمراهقين غير المصحوبين بذويهم بالمغادرة.
إلى ذلك، وعلى وقع التدفق الجديد نحو اليونان، وظهور الخلافات بين أطراف اتفاق 2016، تتجه أثينا نحو "الدفع بمزيد من دوريات الحراسة البحرية للتصدي لمهربي البشر"، بحسب وزارة الحماية المدنية. وأعلنت السلطات اليونانية خلال الأيام الماضية أنّها ستبدأ "تسريع ترحيل المهاجرين غير الشرعيين إلى تركيا كبلد يعتبر آمناً"، بحسب وزير الحماية المدنية، ميخاليس كريسوتشويديس، الذي قال إنّ نحو 80 ألف مهاجر موجودون الآن في بلده "تنبغي إعادة نصفهم إلى تركيا، لكن للأسف لم نرجع سوى 1800 منذ بدء الاتفاق".