من يصنع ذكريات أطفالنا؟

13 اغسطس 2016
قضاء الوقت مع الأبناء دلالة لحبنا لهم( Getty)
+ الخط -
يُخيَّل لي أن هذا الجيل من الأطفال هو جيل بدون ذكريات، متى انطلق ولعب وسافر مع والديه أو أقرانه؟ وجوه الأطفال أصبحت تكاد تلتصق بالتلفاز أو بشاشات التابلت اللعينة.


تحكي إحدى الأمهات عن كلمة "بسرعة" التي تستخدمها في الحديث مع طفلتيها، "بسرعة انتهي من غدائك، بسرعة استيقظي وارتدي ملابسك، بسرعة اغسلي أسنانك"، وعلى الرغم من أن الكلمة لا تزيد من سرعة طفلتيها بل تتسبب في إرباكهما، إلا أنها أصبحت عادة أن تبدأ بها كلامها معهما.

في إحدى المرات، وبينما هي تُقل ابنتيها إلى المدرسة بالسيارة، قالت ابنتها الكبرى للصغرى في نفاد صبر لتحثّها على النزول: "أنت بطيئة جدًا فلتسرعي!"، هنا شعرت الأم بحجم المشكلة التي تسببت فيها وشعرت بكم الضغط الذي شَكَّلته على طفلتيها، فردت وقد ارتعش صوتها: "آسفة جدًا لأنني طالما دعوتك لكي تتعجلي، خذي وقتك ولا داعي أبدًا أن تُسرعي".


نظرت الطفلتان إليها في غير تصديق وأشرق وجه طفلتها الصغرى على الفور، ومن تلك اللحظة بدأت الأم تُقلل من استخدامها للكلمة وبدأت تقضي وقتًا أكبر مع طفلتيها، فيما بعد اشترت لطفلتها الصغرى الآيس كريم، فإذا بطفلتها تسألها: "ماما هل يجب أن نُسرع؟"، تفهّمت الأم أن الكلمة أصبحت جزءا من واقع الأطفال وأنها بحاجة لمزيد من الجهد لتغيير هذا الواقع، فأخبرتها أن تأخذ وقتها في الأكل، ثم جلستا سويًا وتحدثتا وضحكتا، وعندما أوشكت الطفلة على الانتهاء من الآيس كريم قالت لأمها: لقد أبقيت لك القطعة الأفضل يا أمي وناولتها إياها، هنا لم تقدر الأم على الكلام، لقد أثبتت الطفلة لأمها أن مجهود الأسابيع الماضية ومشاركة ابنتها الوقت لا بد وأن يثمر يومًا، حتى ولو كانت الثمرة هي قطعة الآيس كريم التي هي أغلى ما تملك ابنتها في الوقت الراهن.

 


ترميم الحمام القديم

في أربعينيات القرن الماضي، يحكى أنه كانت هناك أسرة متوسطة الحال تريد أن ترمِّم حمام بيتها القديم، وبعد سنة من استقطاع النقود من دخل الأسرة تم استكمال المبلغ، وفي اجتماع الأسرة اقترح أحد الأبناء الصغار أن يقوموا برحلة بدلاً من ترميم الحمام على أن يتأجَّل ترميمه للعام الذي يليه، وبالفعل وافق الوالدان وقاموا بالرحلة واستمتعوا بها، في العام التالي تكرّر نفس الشيء وتكرّر نفس الاقتراح ووافق الوالدان أيضًا، وعلى مدار عشر سنوات تكرّر نفس المشهد وفي كل مرة تفوز الأسرة برحلة جديدة ممتعة.

 فيما بعد اشترك الابن الأصغر في الحرب الكورية وجاء خبر وفاته إلى والديه، ولكن الابن

كان قد كتب خطابًا عشية وفاته وصل بعد شهور من تلقي أسرته خبر الوفاة، وفيه شكر والديه على الذكريات الجميلة والخبرات الرائعة التي عاشها معهما، تأثر الأب كثيرًا ثم التفت لزوجته قائلا: "هل تعتقدين يا عزيزتي أننا لو قمنا بترميم الحمام أن خطاب ابننا عشية وفاته كان سيتضمن كم كان سعيدًا بحمامنا الجديد؟!".

على الجانب الآخر هناك من الآباء من يحكي عما فوته من صحبة أطفاله فيقول: "لو كان لي أن أبدأ أسرة من جديد كنت سألعب أكثر مع أولادي الثلاثة،  كنت سأعمل على أن تجمعنا المزيد من التجارب، وأن نقضي وقتًا طيبًا يُوحّد الأسرة، ليتعلموا كيف يستمتعون بوقتهم سويًا".

كثيرًا ما يحاول الأطفال جذب انتباه آبائهم وأمهاتهم إلى حاجتهم لقضاء الوقت معهم فيغمغمون بحسنًا، أو فيما بعد ثم يكملون ما كانوا يقومون به وكأن كلام الطفل كان مجرد مقاطعة لا طائل منها، الحقيقة أن التعامل مع الأطفال كمصدر مقاطعة عن العمل أو النشاط الذي نقوم به لن يفيدنا على المدى البعيد، لأن الأطفال هم العمل الأكثر أهمية في حياتنا.

 


الأسر الناجحة

في دراسة تقوم باستقصاء نقاط قوة الأسر الناجحة، سُئل 1500 طفل في المراحل الدراسية المختلفة ما الذي يجعل الأسرة سعيدة، أجاب البعض الذهاب إلى ديزني لاند، العربات الفارهة، المال، إلا أن الإجابة الأكثر تكرارًا كانت: أن نقوم بأنشطة سويًا ومن هنا توصلت الدراسة إلى أن قضاء وقت ممتع هو من أهم نقاط القوة لأي أسرة، قد نسأم من بكاء الطفل أو إلحاحه فنضعه أمام التلفاز أو نعطيه التابلت أو نشتري له لعبة جديدة، قد يكون هذا حلاً مؤقتًا، ولكن لا يمكن أن نجعل منه حلًا أبديًا فلنضع نصب أعيننا مقولة "الأطفال يتهجون الحب: و- ق - ت!"، وقتنا الذي سنقضيه مع أطفالنا هو أكثر تعبير مناسب لحبنا لهم.

هناك فيديو لطيف لآباء وأمهات يتعرفّون على رسومات أطفالهم من وسط رسومات أطفال آخرين، وفيه يُفسّر الأب سبب اختياره لرسمة دون غيرها كانت الإجابات تعكس الوقت الذي يقضيه الأب مع ابنه؛ فهو يعرف ما يحب وما يكره ويعرف الألوان التي يحبها و"ستايل" الرسم الخاص به.

لماذا لا نجرّب أن نرسم مع أطفالنا؟ أن نقرأ لهم؟ أن نعلّمهم شيئًا جديدًا؟ أن ننصت لهم باهتمام وهم يخبروننا عن يومهم الدراسي؟ قد تكون الإجابة دائما أنه لا وقت لكل هذا، لكن الوقت الذي سنقضيه معهم هو ذو أهمية كبيرة، ففيه سنعرف أكثر عنهم، عما يحبونه وما يكرهونه، لونهم المفضل، أسماء أصدقائهم، وفي كل مرة نعطي وقتنا لهم فنحن نخبرهم بشكل غير مباشر أننا نهتم لأمرهم ونقدّرهم، لأن وقتنا هو حياتنا، ونحن أعطيناهم جزءا منها.

وفي أحيان أخرى يتغرّب الآباء ويتركون وراءهم أسرهم، ويعودون بعد سني الغربة ليُفاجأوا أنهم يُعامَلون كالغرباء في بيوتهم وعند وفاتهم يكون الحزن عليهم عاديًا، ربما لأنهم تحولوا من آباء لمجرد بابا نويل يزور الأطفال كل عام يُعبئ خزاناتهم بالألعاب والملابس الجديدة ثم يرحل.

إن استراتيجية "سأجمع ما يكفي من المال لأتمتع به مع أطفالي فيما بعد" هي استراتيجية فاشلة لسبب بسيط هو أن الأطفال لن يعودوا أطفالاً، الأطفال يكبرون بسرعة، سيأتي ذلك اليوم الذي سيكبر فيه أطفالنا، سننظر وراءنا إلى الأيام التي انشغلنا عنهم فيها بتأمين حياتهم المزعوم لنجد أننا نسينا أن نكون جزءًا من هذه الحياة، ونسينا أن نكون جزءًا من ذكرياتهم.

نحن من نصنع ذكريات أطفالنا، من الممكن أن نتحجج بإيقاع الحياة السريع، وضغوط عملنا، وهمومنا كوسائل إلهاء عن أطفالنا، إلا أننا إذا استسلمنا للإلهاء نكون قد خاطرنا بألا نكون جزءًا من ذكرياتهم،  تلك الذكريات التي ستكون لهم حصنًا يحتمون به من هموم الدنيا في يوم من الأيام.

  

المساهمون