من يستعرض عضلاته على شعب منكوب؟

06 اغسطس 2016
+ الخط -
من غرائب موقعة حلب المستمرة أن الروس ظهروا وكأنهم حلوا محل النظام والمليشيات العراقية واللبنانية والأفغانية في إدارة المعارك، وفي خوض الحرب الإعلامية. بدت موسكو الطرف الأكثر تمسكاً بإدامة الحصار على المدينة، في شطرها الشرقي، وعلى أجزاء واسعة من ريفها. وقد استكثرت على المقاتلين، وعلى المدنيين، مسعاهم لفك الحصار، فلما انقلبت الموازين جزئياً، منذ مساء الأحد الماضي، بعد الهجوم المنسق الذي شنه الثوار، لكسر الطوق عن المدينة التاريخية، وعمّا لا يقل عن 350 ألف نسمة من المدنيين الذين يرزحون تحت الأهوال، فقد تصرّفت موسكو بعصبيةٍ، ورأت في جهد المقاتلين لاستعادة مدينتهم ما يشبه التحدّي لها.
في واقع الأمر، رأى النظام المنهك، ومعه المليشيات الطائفية، وبالذات مليشيا حزب الله، أن من مصلحته إلقاء العبء على الجانب الروسي، في مقابل إطلاق أيدي الروس لتقرير ما يشاؤون. وقد لاحظ ملاحظون أن وزير الدفاع الروسي، سيرجي شويجو، هو من تحدّث عن "ممراتٍ آمنة " للمدنيين المحاصرين. يعرف السوريون، بخبرتهم الحسية المريرة والطويلة، أنه لا أمن ولا أمان من نظام استمرأ الفتك بشعبه. ولذلك، لم تلق الدعوات لتشجيع الحلبيين على ترك مدينتهم آذاناً صاغية لديهم، فمن باب أولى أن يخرج الأجانب، كل الأجانب لأي طرفٍ انتموا من حلب الشهباء، لا أن يخرج الحلبيون. يستذكر المرء اللقاء الذي جمع وزير الدفاع الروسي، قبل أسابيع، برأس النظام الذي قال إنه فوجئ بوجود الوزير الروسي على الأراضي السورية. أسفر ذلك اللقاء عن قرار روسي بإدارة المعارك وقيادتها. ولهذا، بدا الإطباق على حلب بعد قطع طريق الكاستيلو انتصاراً لموسكو في أنظار مسؤوليها.
حلب قريبة من تركيا، ويحمل الاستيلاء عليها رسالةً إلى الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، قبل لقائه المقرّر مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، يوم 9 أغسطس/ آب
الجاري، لكن الرياح لم تجر بما تشتهي البوارج الروسية، فالسوريون يريدون الحرية لمدينتهم شبه المهدّمة بأسلحة روسية، استخدمها النظام، على مدى السنوات الأربع الماضية، ضد هذه الحاضرة التاريخية وضد أبنائها. زجُّ الروس في مواجهةٍ مباشرةٍ مع السوريين هو التكتيك الذي استخدمه المحور الإيراني من أجل إدامة العداء، وتغذية الضغائن بين الروس والسوريين. وقد جاء إسقاط الطائرة المروحية الروسية في إدلب، ليشكّل صدمةً شديدة لموسكو. والصدمة مفهومة، أما غير المفهوم فهو الشعور بالمفاجأة، فالمقاتلون السوريون يخوضون معاركهم بغير أي غطاء جوي، لكنهم يقاومون الطائرات المعادية، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً. كانت الأيام السابقة على حادثة الطائرة قد شهدت قصفاً رهيباً ومتواصلاً ضد كل مظاهر الحياة في إدلب. كان أبناء المدينة وريفها يُعاقبون من المقاتلات الجوية الروسية على نشدانهم الحرية. والأهداف المفضلة دائماً هي الأسواق والمشافي والمساجد، وبلغ الاحتقان في صفوف المدنيين والمقاتلين الذروة، فيما كان الخناق، آنذاك، يشتدّ على حلب. وكانت الطائرات الروسية مع السلاح الجوي للنظام تدمّر ما تبقى من مشافي حلب. هذه الفظائع يسميها الإعلام الروسي "أعمالاً إنسانية". وكأن هذا الإعلام ما زال يعيش في الحقبة الروسية، ليس من ناحية البروباغندا فقط، ولكن من تناسى أننا نعيش في عصر ثورة الاتصالات والوسائط التقنية الميسرة التي تنقل الأحداث بالصوت والصورة، ساعة بساعة ودقيقة بدقيقة، وتوثّقها، ولم يعد أحد ينتظر أخبار راديو موسكو، وأنباء "البرافدا" و"الإزفستيا" ووكالة تاس وماكينة الإعلام البطيئة والمعلبة.
ينطوي إسقاط المروحية الروسية على مأساةٍ مهولةٍ لطاقم الطائرة ولذوي الضحايا الخمسة، ما كان ينبغي الانزلاق بهذه الصورة في حربٍ لا مشروعية لها، حربٍ تستعرض فيها قوة عظمى عضلاتها على شعبٍ منكوب، وعلى بلدٍ شبه مهدّم. من حق الروس أن يحرصوا على مصالحهم ونفوذهم، غير أن إبداء العداء السافر لملايين السوريين لا يضمن، على المديين المتوسط والبعيد، هذه المصالح. دولة عظمى تتمتع بروح المسؤولية، كان حريّاً بها المشاركة في إعادة البناء، لا العمل على تهديم ما لم يهدم بعد، والفتك بمن نجوا من السوريين. منذ تدخل الروس بالطريقة السافرة التي تدخلوا بها، تم الإجهاز على الحل السياسي إجهازاً تاماً، على الرغم من أن موسكو كانت شريكةً في التوصل إلى القرارات الأممية في جنيف، وفي مجلس الأمن، والتي تشق الطريق نحو حل سياسي، وبالذات القرار 2254. لسببٍ ما، ارتأت موسكو أن المزيد من الحلول العسكرية أفضل من الحل السياسي. وتجري ترجمة الصراع مع تركيا ومع الولايات المتحدة على الأرض، بتقويض ما تبقى من مظاهر الحياة السورية. والسوريون وحدهم يدفعون الثمن الباهظ والمروّع لهذا المنظور "الاستراتيجي" الروسي. وحين يخسر الروس 19 جندياً وخمس مروحيات يفاجأون، كما يفاجأ فريق صيادين محترف في غابة، بخسارة عدد ضئيل من أعضاء الفريق. السوريون وحدهم يجب أن يموتوا. وخلال ذلك، تجري تغطية الوقائع بألاعيب دبلوماسية ولفظية، من قبيل الحديث الذي لا يتوقف عن فصل "الإرهابيين عن القوى المعتدلة"، علماً أن المدنيين هم المستهدفون بالدرجة الأولى، وبصورة شبه دائمة، قبل "الإرهابيين" و"القوى المعتدلة". وتعرّضت أحياء مدنية في حلب لقصفٍ متلاحق من المقاتلات الروسية، انتقاماً لسقوط المروحية الروسية، وسقط العشرات من الضحايا.
الذين نسوا ما جرى لغروزني الشيشانية، أواخر القرن الماضي وبداية القرن الحالي، عادوا
واستذكروا تلك الوقائع الرهيبة، وذلك مع إصرار موسكو على خوض الحرب ضد كتلةٍ بشريةٍ سوريةٍ عريضةٍ، ترى فيها موسكو موئلاً للمعارضة، وحاضناً لها، وبيئة يتحرّك داخلها المقاومون. لقد أغلق الدور الروسي كل الطرق نحو مخارج محتملة ومفترضة للأزمة المستعصية. والمباحثات الثنائية التي لا ينقطع الحديث عنها بين وزيري الخارجية، الأميركي جون كيري والروسي سيرجي لافروف، يجري استخدامها بصورة منهجية للتمويه على ما يحدث، على الأرض وفي الأجواء السورية، وما يجري له اسم واحد هو: الفظائع التي تقشعر لها الأبدان، مما تحفل به تقارير المنظمات الإنسانية والحقوقية والإغاثية وشهادات ذوي الضحايا وشهود العيان من السوريين. تبين تلك التقارير اليومية الحقائق، وكل حديث عن الإرهاب لن يطمس الفظائع التي تقترف ضد المدنيين والمرافق المدنية ومصادر الماء والطعام والاستشفاء، ناهيك عن إشاعة الرعب في صفوف ملايين الناس البسطاء. والأكثر إثارةً للعجب أن وقف الأعمال العدائية والقتالية (إعلانات الهدنة) تخترقانه موسكو ودمشق بصورةٍ دائمةٍ، وهو ما تحدث به غير مرة وتكراراً الوزير كيري، لكن موسكو تتصرف باعتبار أن ما ينطبق على غيرها لا يشملها.
لم يعد السؤال ماذا تفعل روسيا في بلد الأمويين، فالمجريات اليومية تجيب بوضوح على هذا الاستفهام، السؤال الراهن هو: ماذا تفعل روسيا بـ "نفسها"، بصورتها في سورية؟ أطنان من الحديث اليومي عن الإرهاب في موسكو، فيما الدور الروسي في هذا البلد المنكوب لا يعدو أن يكون، حتى الآن، نشر الدمار والخراب، وتقويض إرثٍ من الصداقة الروسية مع الشعوب العربية، ومن ضمنها شعب سورية الذي يتم التضحية به، مع تاريخ الصداقة.
محمود الريماوي
محمود الريماوي
قاص وروائي وكاتب سياسي من الأردن.