04 نوفمبر 2024
من يحمي الدستور السوري من الاعتقال مجدّداً؟
تتمتّع سورية اليوم بميزة استثنائية وفريدة، وتكاد تكون غير قابلة أن تتكرّر في أماكن أخرى، فالدولة "ذات السيادة" التي تدافع عنها روسيا في المحافل الدولية هي الدولة نفسها التي تجتاح جيوش لدول من كل أصقاع الدنيا أراضيها، وترفرف فوقها أعلام هذه الدول، وتتم صياغة نحو عشرات الدساتير لها، تحت مسميات ورشات العمل تارة، وبحوث درسيّة، وحوارات "طائفية" وقومية، أي متعدّدة الطوائف والقوميات، ومسوّدات دستورية، وأوراق أو "لا أوراق" دولية، ولتطلّ علينا أيضاً تسريباتٌ دستورية، وأخيراً لجنة دستورية تقرّ أسماءها دول احتلال وهيمنة وصراع على سورية. ويعرف المتابع للشأن السوري أن عدد الاجتماعات التي جرت لوضع دستور لسورية خارج سورية يفوق عدد الجلسات الأممية التي ناقشت المأساة السورية بعشرات المرّات، وربما بأضعاف ذلك، وكان ضحيتها نحو مليون شهيد سوري، وأكثر من نصف السكان شرّدوا نازحين ولاجئين.
وفي خطوةٍ يمكن قراءتها بأن الولايات المتحدة الأميركية، بعد نأي طويل، تعيد جدولة الأعمال على الساحة السورية في المرحلة المقبلة، من خلال ورقتها المسرّبة عبر الإعلام، (لا تزال غير موثوقة بالنسبة لي، لأنها مجرّد سرد تفاصيل مضمون اللاورقة)، والتي تأتي ضمن صياغةٍ ضعيفة، ومتكئةً على شروطٍ هي أقرب ما تكون إلى تأسيس منظمات مدنيةٍ منها إلى تأسيس حل للصراع في سورية، والذي لم يعد محلياً، أو حتى يمكن حصره في إطار العمل الداخلي لحكومة النظام القائمة، أو المزمع تشكيلها، فحيث تبنّت الوثيقة توصيف الحكومة التي تسعى إليها الدول المشاركة فيها أنها ليست راعيةً للإرهاب، وخالية من أسلحة الدمار الشامل، وتقطع علاقاتها مع إيران، ولا تهدّد جيرانها، وتخلق شروط عودة للاجئين، وتلاحق مجرمي الحرب وتعاقبهم، فهي لم تأت، في الوقت نفسه، على آليات الوصول إلى تلك الحكومة، في ظل حربٍ لا يزال النظام السوري وداعماه (إيران وروسيا) يقرعون طبولها في إدلب، ويهدّدون سلامة نحو أربعة ملايين مدني، ومئات آلاف المعتقلين مغيّبون في سجون النظام. وفي الجانب الآخر، لا تزال المعارضة تمثل كياناتها المصنّعة دولياً، وتزاول أدوارها الوظيفية، وفقاً لأجندة مشغّليها.
فحيث عكست الوثيقة، حسب الترجمة المسرّبة، ما يمكن تسميتها عناوين حوارية بين الأطراف، تمثّل الرؤية النهائية لما تريد هذه الدول تضمينه داخل العمل الأممي للجنة الدستورية، فإنها، في الوقت نفسه، لم تخرج عمّا كانت قد أصدرته في 24 يناير/ كانون الثاني من هذا العام تحت مسمى "اللاورقة" (نشرت في "العربي الجديد" في 27/1/2018)، وهدفت من خلالها آنذاك مع مجموعة العمل المصغّرة إلى تعطيل (وتنفيس) ما سمّي الحوار السوري في سوتشي، والذي دعت إليه موسكو، وعقد في 30 يناير/ كانون الثاني الماضي. وتقديم أوراق تفاوضية جديدة للمعارضة السورية، تنتج من خلالها مساراً تفاوضيا متواصلاً، ينهي مسلسل الجولات التي وصلت إلى تسع، إذا اعتبرنا ما جرى في فيينا واحدةً منها، أي أننا أمام صياغة متدنيّة عما كانت عليه في اللاورقة، وتحديداً في بند الإصلاح الدستوري، فحيث كانت اللاورقة تضع بنوداً واضحةً لعملية الإصلاح الدستوري (من الصلاحيات الرئاسية إلى البرلمان والقضاء ولامركزية الحكم والحقوق والحريات الأساسية، وإصلاح قطاع الأمن والانتخابات)، جاءت الوثيقة المسرّبة لتعيد البنود نفسها مسبوقةً ب"يجب وينبغي"، ما يضعنا أمام تساؤلاتٍ بشأن من تقع عليه هذه الأفعال الموجبة، وعن سبب تسريبها بدلاً من إعلانها، كما حدث في اجتماع يناير في باريس للمجموعة نفسها (الولايات المتحدة، فرنسا، لندن، السعودية، الأردن، مصر)، وانضمت لاحقاً ألمانيا، كما أعلنت روسيا في 14 سبتمبر/ أيلول عن استعدادها للبحث عن سبلٍ للتفاهم والتعاون معها، بعد أن كانت تقف على الجهة المعادية، كما سعت إلى ذلك تركيا، على الرغم من أن الأخيرتين كانتا وراء تجاهل المبعوث الأممي، ستيفان دي ميستورا، اللاورقة، وتغاضي هيئة التفاوض، حتى عن مناقشتها، على الرغم من أنها بشّرت بما يمكن تسميتها الجمهورية السورية الثالثة! ما يضعنا أمام سؤالٍ لماذا يتم تسريب الوثيقة عبر المعارضة التي رفضتها قبل نحو ثمانية أشهر، لتعيدها اليوم إلى الأضواء، وكأنها الحل السحري لمعضلة الدستور السوري، وكان يمكن لها أن تكون كذلك، لإجهاض مسار سوتشي على الأقل؟!
صحيحٌ أن التغيير الدستوري هو أحد أعمدة تغيير النظام الحالي، ومقدّمة مهمة للمرحلة ما بعد الانتقالية، إلا أنه قانونياً يتطلب أن يكون بأيدٍ سورية، وليس بأدواتٍ سورية مرتهنة، ويعتمد على مبدأ حق السوريين بتقرير مستقبلهم، وليس حق الدول المتصارعة بخطف ذلك المستقبل، ومصادرته بما يخدم طموحاتها المستقبلية، ويقوّض حق السوريين في اختيار نوع الحكم وآليته، ومن يحق له ذلك، أو يمنع عنه دستورياً. وفي الوقت نفسه، هذا لا يتناقض، مع حالة الحرب
القائمة، من ضرورة وضع أسس للمبادئ الدستورية التي من شأنها أن تكون عامل جمع شتات سورية دولةً، والسوريين شعبا، لبدء المرحلة التأسيسية للدولة السورية الجديدة، بنية وشكلاً.
وضمن ذلك الجهد، يمكن أن نفهم مسؤولية اللجنة الدستورية (في شقّها المعارض) في الحفاظ على الخط الفاصل بين "صياغة المبادئ الأساسية"، ومنها ما جاء في "اللاورقة" كأفضل أنواع التدخل لمصلحة الشعب السوري، بعيداً عن الحروب الدائرة على حساب السوريين، وفي غير مصلحتهم، ولعقد التفاهمات البيْنية السورية - السورية، وبين "صناعة الدستور"، فالأولى مهمة معارضاتية، تأتي خطوةً ضرورية لصياغة محدّدات تحكم المرحلة الانتقالية، والثانية اعتداء سافر على حق السوريين الذي تكفله القوانين الدولية، وخصوصا في ظل لجنة دستورية على مقاس المحاصصات البيْنية بين معارضات، ونظام، وعلى أسسٍ غير معيارية أو تخصّصية، وبأسماء تمثل الدول التي تبنتّها لتكون ممثلتها في اللجنة، ما ينتج دستوراً لعلاقاتٍ دوليةٍ، تتقاطع على احتلال سورية، دولة وشعباً ودستوراً، أي ينتج دائرة تبريرات لنظام حكم جديد مرة أخرى "محكوم" من أطراف دولية بلباس سوري، ولكن غير "سورية".
وفي المحصلة، قد تكون عشرات الوثائق التي أعدّت في مراكز أبحاث، وورش عمل واجتماعات، كلها تمثل التوجه الصحيح في فصل السلطات، وتقليص صلاحيات الرئيس، واعتماد النظام البرلماني، وحكم المناطق أو الأقاليم وتمثيلها السياسي العادل، (في لعبة لغوية هدفها الهروب من مصطلح الفيدرالية)، وإصلاح أجهزة أمن الدولة وضمان الرقابة المدنيّة عليها، إلا أن في اللاورقة، وفي الوثيقة المسرّبة، لا ضمانات لتنفيذ البنود على الأرض، كما لا ضمانات لتوفير المناخ الذي يسمح بإعلان الدولة ذات السيادة التي يحكمها دستورها، وليس أجهزتها الأمنية هي التي تحكم الدستور، وتقوّض صلاحياته وتعتقله، وهو ما حدث عام 2011 وما قبله، ولا يزال يحدث.
وفي خطوةٍ يمكن قراءتها بأن الولايات المتحدة الأميركية، بعد نأي طويل، تعيد جدولة الأعمال على الساحة السورية في المرحلة المقبلة، من خلال ورقتها المسرّبة عبر الإعلام، (لا تزال غير موثوقة بالنسبة لي، لأنها مجرّد سرد تفاصيل مضمون اللاورقة)، والتي تأتي ضمن صياغةٍ ضعيفة، ومتكئةً على شروطٍ هي أقرب ما تكون إلى تأسيس منظمات مدنيةٍ منها إلى تأسيس حل للصراع في سورية، والذي لم يعد محلياً، أو حتى يمكن حصره في إطار العمل الداخلي لحكومة النظام القائمة، أو المزمع تشكيلها، فحيث تبنّت الوثيقة توصيف الحكومة التي تسعى إليها الدول المشاركة فيها أنها ليست راعيةً للإرهاب، وخالية من أسلحة الدمار الشامل، وتقطع علاقاتها مع إيران، ولا تهدّد جيرانها، وتخلق شروط عودة للاجئين، وتلاحق مجرمي الحرب وتعاقبهم، فهي لم تأت، في الوقت نفسه، على آليات الوصول إلى تلك الحكومة، في ظل حربٍ لا يزال النظام السوري وداعماه (إيران وروسيا) يقرعون طبولها في إدلب، ويهدّدون سلامة نحو أربعة ملايين مدني، ومئات آلاف المعتقلين مغيّبون في سجون النظام. وفي الجانب الآخر، لا تزال المعارضة تمثل كياناتها المصنّعة دولياً، وتزاول أدوارها الوظيفية، وفقاً لأجندة مشغّليها.
فحيث عكست الوثيقة، حسب الترجمة المسرّبة، ما يمكن تسميتها عناوين حوارية بين الأطراف، تمثّل الرؤية النهائية لما تريد هذه الدول تضمينه داخل العمل الأممي للجنة الدستورية، فإنها، في الوقت نفسه، لم تخرج عمّا كانت قد أصدرته في 24 يناير/ كانون الثاني من هذا العام تحت مسمى "اللاورقة" (نشرت في "العربي الجديد" في 27/1/2018)، وهدفت من خلالها آنذاك مع مجموعة العمل المصغّرة إلى تعطيل (وتنفيس) ما سمّي الحوار السوري في سوتشي، والذي دعت إليه موسكو، وعقد في 30 يناير/ كانون الثاني الماضي. وتقديم أوراق تفاوضية جديدة للمعارضة السورية، تنتج من خلالها مساراً تفاوضيا متواصلاً، ينهي مسلسل الجولات التي وصلت إلى تسع، إذا اعتبرنا ما جرى في فيينا واحدةً منها، أي أننا أمام صياغة متدنيّة عما كانت عليه في اللاورقة، وتحديداً في بند الإصلاح الدستوري، فحيث كانت اللاورقة تضع بنوداً واضحةً لعملية الإصلاح الدستوري (من الصلاحيات الرئاسية إلى البرلمان والقضاء ولامركزية الحكم والحقوق والحريات الأساسية، وإصلاح قطاع الأمن والانتخابات)، جاءت الوثيقة المسرّبة لتعيد البنود نفسها مسبوقةً ب"يجب وينبغي"، ما يضعنا أمام تساؤلاتٍ بشأن من تقع عليه هذه الأفعال الموجبة، وعن سبب تسريبها بدلاً من إعلانها، كما حدث في اجتماع يناير في باريس للمجموعة نفسها (الولايات المتحدة، فرنسا، لندن، السعودية، الأردن، مصر)، وانضمت لاحقاً ألمانيا، كما أعلنت روسيا في 14 سبتمبر/ أيلول عن استعدادها للبحث عن سبلٍ للتفاهم والتعاون معها، بعد أن كانت تقف على الجهة المعادية، كما سعت إلى ذلك تركيا، على الرغم من أن الأخيرتين كانتا وراء تجاهل المبعوث الأممي، ستيفان دي ميستورا، اللاورقة، وتغاضي هيئة التفاوض، حتى عن مناقشتها، على الرغم من أنها بشّرت بما يمكن تسميتها الجمهورية السورية الثالثة! ما يضعنا أمام سؤالٍ لماذا يتم تسريب الوثيقة عبر المعارضة التي رفضتها قبل نحو ثمانية أشهر، لتعيدها اليوم إلى الأضواء، وكأنها الحل السحري لمعضلة الدستور السوري، وكان يمكن لها أن تكون كذلك، لإجهاض مسار سوتشي على الأقل؟!
صحيحٌ أن التغيير الدستوري هو أحد أعمدة تغيير النظام الحالي، ومقدّمة مهمة للمرحلة ما بعد الانتقالية، إلا أنه قانونياً يتطلب أن يكون بأيدٍ سورية، وليس بأدواتٍ سورية مرتهنة، ويعتمد على مبدأ حق السوريين بتقرير مستقبلهم، وليس حق الدول المتصارعة بخطف ذلك المستقبل، ومصادرته بما يخدم طموحاتها المستقبلية، ويقوّض حق السوريين في اختيار نوع الحكم وآليته، ومن يحق له ذلك، أو يمنع عنه دستورياً. وفي الوقت نفسه، هذا لا يتناقض، مع حالة الحرب
وضمن ذلك الجهد، يمكن أن نفهم مسؤولية اللجنة الدستورية (في شقّها المعارض) في الحفاظ على الخط الفاصل بين "صياغة المبادئ الأساسية"، ومنها ما جاء في "اللاورقة" كأفضل أنواع التدخل لمصلحة الشعب السوري، بعيداً عن الحروب الدائرة على حساب السوريين، وفي غير مصلحتهم، ولعقد التفاهمات البيْنية السورية - السورية، وبين "صناعة الدستور"، فالأولى مهمة معارضاتية، تأتي خطوةً ضرورية لصياغة محدّدات تحكم المرحلة الانتقالية، والثانية اعتداء سافر على حق السوريين الذي تكفله القوانين الدولية، وخصوصا في ظل لجنة دستورية على مقاس المحاصصات البيْنية بين معارضات، ونظام، وعلى أسسٍ غير معيارية أو تخصّصية، وبأسماء تمثل الدول التي تبنتّها لتكون ممثلتها في اللجنة، ما ينتج دستوراً لعلاقاتٍ دوليةٍ، تتقاطع على احتلال سورية، دولة وشعباً ودستوراً، أي ينتج دائرة تبريرات لنظام حكم جديد مرة أخرى "محكوم" من أطراف دولية بلباس سوري، ولكن غير "سورية".
وفي المحصلة، قد تكون عشرات الوثائق التي أعدّت في مراكز أبحاث، وورش عمل واجتماعات، كلها تمثل التوجه الصحيح في فصل السلطات، وتقليص صلاحيات الرئيس، واعتماد النظام البرلماني، وحكم المناطق أو الأقاليم وتمثيلها السياسي العادل، (في لعبة لغوية هدفها الهروب من مصطلح الفيدرالية)، وإصلاح أجهزة أمن الدولة وضمان الرقابة المدنيّة عليها، إلا أن في اللاورقة، وفي الوثيقة المسرّبة، لا ضمانات لتنفيذ البنود على الأرض، كما لا ضمانات لتوفير المناخ الذي يسمح بإعلان الدولة ذات السيادة التي يحكمها دستورها، وليس أجهزتها الأمنية هي التي تحكم الدستور، وتقوّض صلاحياته وتعتقله، وهو ما حدث عام 2011 وما قبله، ولا يزال يحدث.