من هي أميركا؟ السخرية من الخصم حتى يتهاوى

09 سبتمبر 2018
استقال جيسون سبنسر بعد حلقته مع كوهين (فيسبوك)
+ الخط -
منذ انتخاب دونالد ترامب  رئيساً للولايات المتحدة الأميركية، مطلع 2017، يعيش الأميركيون علاقة مختلفة على أكثر من صعيد مع السلطة. إذ وجد المواطنون أنفسهم أمام رئيس لا يكتفي فقط بآراءٍ يمينية، متطرفة في أغلبها، وآراء صادمة عن المرأة والمسلمين والمهاجرين والحرب والحدود مع المكسيك، ولكنه أيضاً عاجز عن تقبل النقد، أو مناقشته بشكل عقلاني. بل عمد ترامب إلى الرد على منتقديه بهجومٍ أو حدة أو سخرية مهينة من معارضيه. وتدريجياً تحول حكم ترامب إلى مشهد هزلي. نتيجة لكل ما سبق حقق المسلسل التلفزيوني Who is America؟ للكوميدي البريطاني ساشا بارون كوهين، أثراً مدوياً داخل المجتمع الأميركي منذ بدء عرضه في يوليو/تموز الماضي وحتى الحلقة الأخيرة نهاية أغسطس/آب. فقد استخدم كوهين سلاحاً قديماً في مواجهة السلطة ووصل به إلى مستويات غير مسبوقة ربما: سلاح السخرية. 

منذ بداية مسيرته سلك كوهين مساراً غير معتاد في الكوميديا الغربية؛ قائم على تجسيده شخصية خيالية والتفاعل مع أشخاص حقيقيين في الحياة الواقعية، والجدال معهم عن أمور عدة، بشأن السياسة أو الفن أو الآراء العامة. فعل ذلك بداية في التلفزيون البريطاني من خلال شخصية وبرنامج "علي جي"، قبل أن يحقق انتشاراً عالمياً ساحقاً في فيلم Borat، المرشح لجائزة أفضل فيلم كوميدي في "الكرة الذهبية" عام 2006. في العمل إياه يعاود كوهين ارتداء شخصية "بورات" (من برنامج علي جي)، وهو إعلامي كازاخستاني يدّعي تصوير فيلم وثائقي عن يومياته في أميركا، ويصوّر تفاعله مع الناس. وكرر الممثل والكاتب نفس اللعبة مع فيلم Brüno (2009)، كمراهق أسترالي هذه المرة.
وبعد سنوات طويلة، ظن فيها الجميع أن كوهين لن يعاود لعبة الشخصية الخيالية في عالم واقعي، يعود بحلقات Who is America؟ الأكثر جرأة وحدة وتأثيراً، من أي شيء سبق أن قدمه في حياته.



يخلق كوهين في مسلسله 4 شخصيات جديدة: الأولى هي بيلي ريدريك، صحافي يميني يكتب في موقعه الشخصي على الإنترنت ويقابل شخصيات سياسية مهاجماً إياها ومتباهياً بمواقف وآراء ترامب. الشخصية الثانية هي نيرا كين، محاضر في دراسات النوع الاجتماعي وناشط اجتماعي يحاول التواصل مع مواطني المدن الأميركية. أما الثالث فهو جيو مينالدو، سجين بريطاني سابق يسعى إلى ترويج أعماله الفنية الغريبة ويتصل بمجتمع الفنانين والموسيقيين. بينما الشخصية الأخيرة (والأكثر إثارة للجدل والمتاعب) فهو إيران مراد: ضابط الموساد الإسرائيلي المسؤول عن مكافحة الإرهاب والذي يملك حفنة الآراء المتطرفة في حربه على الإرهاب، من بينها تسليح الأطفال. كل شخصية من الأربعة تتفاعل وتقيم حوارات مع شخصيات عامة أو مواطنين عاديين، للبحث عن سؤال العمل: "من هي أميركا؟!"، وتكون النتيجة مُدهشة.

في عام 1962 كتب الروائي المصري الفرنسي ألبير قصيري روايته المهمة "العنف والسخرية"، ويقدم فيها تنظيراً هجائياً عن كيفية مواجهة الطغاة، يقول إن "العنف هو ما يبحثون عنه لأن مواجهته سهلة"، "فحين نأخذهم بجدية، فهذا يعطيهم نوعاً من الاحترام والأهمية، وخصومنا أوغاد لا يستحقون هذا"، ولذلك "لا يجب أن نرد على عنفهم بالعنف، بل نحاول أن نكون هزليين أكثر منهم، نحاربهم بالسخرية، وفي أرضنا تلك نحقق انتصارنا الأكبر".


هذا ما يفعله كوهين تحديداً في عمله الجديد، يقابل شخصية مثل ديك تشيني، نائب الرئيس السابق جورج بوش، بصفته "إيران مراد"، ويسأله بجدية مفرطة "عما هي حربه المفضلة من بين الحروب الثلاث التي كان فيها وزيراً للدفاع؟!"، أو "ما مدى فخره في قتله 100 ألف إرهابي حقيقي و700 ألف إرهابي محتمل؟!". يتلاعب كوهين بصيغة الأسئلة، وبشكل حاد الذكاء، ويشعر محادثه بالارتباك وبعض الإطراء، فيجيب بجدية.

يجلس كشخصية "مينالدو"، الفنان الغرائبي، مع مديرة أحد المعارض الشهيرة في أميركا، ويحادثها عن كيفية رسمه بفضلاته داخل السجن، ومن خلال رد فعلها المتعجب يكون الهجاء شديد الحدة وغير قابل للرد عليه عن مدى صدق أو زيف الفن المعاصر. أمر يكون أوضح في الحلقة التي يذهب فيها لكورين أوليمبس، نجمة تلفزيون الواقع الأميركية، ويقترح عليها تزييف صورة من خلال برنامج "فوتوشوب" من أجل ادعاء مشاركتها في حملة مواجهة لوباء إيبولا في أفريقيا، ويسجل خطوات ذلك من خلال الكاميرا. الأمور المتجذرة في المجتمع يكشفها المسلسل من قبيل رد فعل سكان بلدة "كينغمان" حين يخبرهم "تيرا كين" عن بناء مسجد جديد في المدينة، فيبدون عنفاً وآراء يمينية بشأن المسلمين و"الغرباء"، فيخلق كوهين وطاقم عمله إجابة مقربة عن سؤال "كيف وصل ترامب إلى رئاسة أميركا؟".

السخرية العنيفة، قابلة للمساءلة بالطبع عن مدى أخلاقية خداع الناس إلى هذا الحد، ولكن كما يسأل قصيري أيضاً في روايته: "كيف تواجه واقعاً عفناً إلى هذا الحد؟!". فالملفت أكثر من غيره هو النتيجة التي أحدثها المسلسل في الواقع الأميركي، وبشكل لم يقدر عليه أي هجاء أو جدل سياسي. مثل استقالة جيسون سبنسر، النائب الجمهوري في مجلس النواب المحلي في ولاية جورجيا، والمشهور باقتراحه لقانون مكافحة إرهاب يمنع الناس من تغطية وجوههم في الأماكن العامة، وكذلك بعض الآراء الهجائية الخاصة بالنساء. وجاءت استقالته إثر ردود الأفعال الاستثنائية للحلقة الثانية التي عرضت في أواخر يوليو، وقام فيها سبنسر بأفعال عنصرية وغير أخلاقية، مثل خلع ملابسه كطريقة للكشف عن إرهابيي داعش كما أقنعه "إيران مراد"! أو المشاكل الجمة التي وقعت فيها شركة بيع يخوت في أميركا إثر ظهور أحد ممثليها مع شخصية "مينالدو" وهو يطلب منه أن يشتري يختاً للرئيس السوري بشار الأسد من أجل مهاجمة اللاجئين الهاربين من جحيم الحرب. وبالطبع التصريحات الغاضبة التي خرجت من إدارة ترامب تستهجن طريقة "من هي أميركا؟" في التعامل مع الرئيس.
تلك النتائج المباشرة، المؤثرة على الواقع، أنتجتها كوميديا كوهين وسخريته المفرطة، وربما يعطيه ذلك شرعية في تطرف أساليبه، وكأنه يأخذ – مرة أخيرة ــ نصيحة قصيري إلى منتهاها: "ما يجب أن يحدث هو أن تسخر من المجرم حتى يتهاوى، وقتها سيختفى من الحياة، ولن يتذكره أحد".
المساهمون