من فضائل "العمّ كورونا"
عصفت بدول العالم شرقاً وغرباً موجة وبائية لا يكاد "المجرم" فيها يرى؛ لكنه أقام الدنيا وأقعدها، وهز عروش الدول وزعزع الحكومات، فتوقفت الحياة إلا قليلا، وترك الناس أعمالهم.. فجأة!
كان الرجل يخرج فلا يكاد أطفاله يرونه؛ إذ يخرج قبل استيقاظهم ويرجع أحيانا بعد نومهم، أو لعلهم يذهبون إلى المدرسة وهو نائم ويرجعون وقد خرج؛ فلا يلتئم شمل الأسرة إلا في المناسبات، بعض المناسبات لا كلها.
فأعلنت حالة الطوارئ في البيوت أكثر منها في الدول والمؤسسات؛ وكأن البيوت لم تصمم لاستيعاب أركانها كلهم معاً، فالزوجة خلال أيام بدأت تتضجر من حضور الزوج الثقيل؛ الحضور الثقيل وليس الزوج الثقيل! والأب كسر عدداً من العصي ومزق بعض الأحزمة من جلد الأبناء وكأنه في فرع أمني!
وبعد تعب كل الأطراف من النزاع والصراخ والقتال يعودون إلى قواعدهم، وتتنزل السكينة، ويلف البيت هدوء رحماني؛ وتبدأ المراجعات:
تقرأ الطفلة الصغيرة وترقص بأغنية حفظتها من الروضة فيها محاذير، ويلمح الأب لأول مرة سواراً للشواذ في يد ولده وطوقاً في رقبته؛ فيدرك لأول مرة أن في ما بين أيدي أطفاله ورؤوسهم شوائب وشوارد لا بد لها من "فلترة"، ليوقن أن التعقيم لازم لأفكار الأولاد ومواردهم من المدرسة والشارع، وإنما تأخر هو ذاته بمراجعة ما يتلقون وسؤالهم عما عندهم .. فسجل للعم "كورونا" أول فضيلة!
فالبيت لا بد أن يكون المدرسة الأولى، ولا بد للوالدين أن يكونا أهم المعلمين لأولادهم؛ فكبار العلماء في الشام وغيرها درجوا أول أمرهم في حلقات آبائهم وأجدادهم؛ فهي فرصة حقيقية لاختيار كتاب وقراءته في مجالس يومية مع الأسرة كلها، ومنه يمضي الوالد والوالدة مع الأولاد في أودية شتى من العلوم والفوائد والفرائد، ولا يلزم من هذا أن يكون الوالدان من أهل العلم الراسخين، فمن عجز فليقرأ مع الأولاد سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ويكمل في سيرة الصحابة والصالحين رضوان الله عليهم أجمعين والأعلام المشهورين. ولا يجمد بهم عند الكتب الشرعية فيمل الأطفال، فيمكن أن يقرأ لهم من الأدب والطرائف والغرائب والمخترعات، ومن كل ما ينفعهم في دينهم ودنياهم ويخفف عنهم.. وبهذا ترجع للبيت وللوالدين الصدارة في التربية والتعليم.
وحينما تكرر سماعه الأذان من المسجد المجاور وقرعته ضرباته تحركت نوازع الإيمان في نفسه، فتجهز للخروج إلى المسجد، ففوجئ بابنه الصغير "حمامة المسجد" يوقفه والدمعة في عينه: لا داعي يا أبي؛ فالمسجد مغلق! فتذكر وقتها أن الصلاة في المساجد منعت بسبب الوباء لكنه نسي لأنه لا يحافظ على الجماعة، وأن ابنه بكى لأنه تعود الصلاة في المسجد دون أبيه، فأخذ الأب بيده وأقام ليصلي مع أولاده وزوجته .. ثم التفت بعد الصلاة، فذكرهم بحديث "لا تجعلوا بيوتكم مقابر"، وعاهدهم على الصلاة معاً ما أقاموا محتجزين في البيت، وراجع معهم أذكار الصباح والمساء وحصن المسلم من الأوبئة والآفات.
فلزمه أن يراجع ما يحفظ من قديم حتى يقرأ بهم ويرقيهم؛ فصار يأخذ المصحف يتلو ما يستره أمام عائلته في الصلاة، والصغير يوقظه إن نام ويصيح به إن سها حينما يؤذن ليدرك بهم الصلاة .. فسجل "للعم كورونا" فضيلة ثانية!
ومع صلاة تلو صلاة، ومجلس قراءة وذكر عقب مجلس تضحكه ابنته وهي تقول: "والله تصلح أن تكون شيخاً يا أبي!" ألا يكفي الوالد أن يرجع "الشيخ" لأهله وأطفاله، فلا يلقي على أحد باللوم إن عملوا بشيء أو انتهوا عن غيره؛ فلو أن الأولاد رأونا أمامهم شيوخاً ما اتخذوا سوانا، ولا قدموا على قولنا قول أحد؛ فلعلها تكون فرصة للمراجعة والتصحيح لنا ولأطفالنا.
قد نضجر من صخب الأطفال ونتداول المقاطع تحاكي حال البيوت في اللعب والشغب، وكأنهم لأول مرة يلعبون ويصرخون! إنهم كذلك كل يوم، ولكننا في ملاجئ العمل والزيارات، فلا نعيش ضجيج أطفالنا، واليوم صرنا كأننا ضيوف في منازلنا نرى لأول مرة ونسمع. ولن ينفعنا القهر والضرب، وإن لم نقل برمي السوط، فقد سبق الأقدمون فقالوا: "ضع سوطك في مكان يراه أهل بيتك"؛ فهي سلطة لا بد أن تستشعرها الرعية في البيت، ولكن تسقط هيبتها مع استعمالها. وقد ينفع الأولاد أن تجلس معهم في لعبة مشتركة، ولن يبلغ شيء مبلغ فرحهم بأبيهم وأمهم يلعبان معهم، فإن لم تعجبك ألعابهم فارجع إلى طفولتك الضائعة خلف عقود السنين، والعب معهم لعبة من الماضي الجميل فتنكش ذكرى جميلة وتعيشها حاضرا مع أطفالك.. وزدها ثالثة في فضائل "العم كورونا"!
تتفاوت أحوال الرجال مع الطبخ والمطبخ؛ من رجل يعرف حبة السكر إن مضت بها نملة في المطبخ .. حتى آخر لا يعرف فيه الملح من السكر والبصل من الثوم، ومن رجل لا يعرف الطبخة حتى توضع على المائدة .. حتى رجل تضيق به زوجته ويضيق بها في المطبخ فلا تعرف من هو "الشيف" منهما. فالبعيد عن الطبخ اقترب منه مع الجلوس في البيت مضطراً، فأدرك أنه يمكنه مساعدة الزوجة أو تسليتها على الأقل وهي تعمل، ولو أن يغني لها بالشعر أو يتغزل بها، فيخفف عنها، فيغدو المطبخ لها وكأنه ناد أو مجلس زيارة عامر بالبسمة والضحكات.
والقريب من الطبخ وفنونه قد يحلو له أن يفاجئ زوجته فلا تنهض إلا والفطور على المائدة ينتظرها، يدعوها مع أطفاله وقد أنجزوا مهمتها اليومية منذ سنين؛ ولعلها في الأحلام لم تشطح بها هكذا. يكفي "العم كورونا" فضيلة هنا أنه أعاد الأزواج والأبناء إلى موائد الزوجات والأمهات بعد إدمان الوجبات السريعة وأكل المطاعم؛ فهي فضيلة كبيرة "للعم كورونا"!
تلتفت إلى طاولتك فترى كتباً تناثرت فوقها، قد قرأت في كل كتاب ورقات أو فصولاً في طفرة من همة عرضت يوما، وأوراقاً من الدفتر كتبت في رأس كل ورقة عنواناً وما زال ينتظر الفيض الرباني عندك لتكمل ما تحته، أو ملفات أنشأتها على الحاسب فجعلت في كل ملف أفكاراً تنتظر الربط والإخراج؛ فهي مشاريع كلها وصلت منتصف الطريق أو أقل من المنتصف دون إتمام.. وجاء بك "العم كورونا" لتجلس في بيتك لتراجع النواقص والمقطعات فتكملها، وما أجمل أن تشترك فيها من الزوجة أو الأبناء؛ فأنتم في مركب واحد، فترجع إليهم صورتك وأنت تبحث وتكتب أو تقرأ وتعلق، كما كنت قبل أن يغتالك العمل وتسرقك منهم العلاقات والهموم؛ فما أجملها من فضيلة "للعم كورونا"!
ومن فضائله أراح الله منه العباد والبلاد:
أنه عرى حكومات انشغلت بالقمع عن الاحتياط لحماية الشعب، وأخرى أخذتها مدنية زائفة ثم عجزت عن الوباء فقدمت إليه قرابين من المسنين والعجزة يدفعونه بها عن أنفسهم!
ومن فضائله حفظكم الله جميعا من ويلاته:
أن تنظر في كل ما تتخذ من إجراءات احترازية خوفاً من الموت، فتتذكر من يحصدهم الموت في سورية وغيرها، ولا شيء لديهم يتقونه به، فتساويت وأنت في قصرك وبين خدمك مع ساكن الخيمة؛ بل لعل "العم كورونا" يخترق كل الحواجز إليك ولا يدركه وهو في خيمة ممزقة!
ولعل من فضائله أن تنظر -مختاراً أو مرغما- في القسم الممتلئ من الكأس، فلا يقعد بك الإحباط مع الوباء، فتهلك من متابعة الأخبار ومراقبة عداد الإصابات، حتى لتتوهم أنه بلغ مدخل الحي عندك ينازع الحراس ليدخل عليك!
فلا يقتل الأمل وينزل بالمناعة مع وباء يستهدف -أول ما يستهدف الجهاز المناعي- مثل اليأس والخوف؛ فلننظر في فوائد "العم كورونا" مما سبق وغيرها كثير، ولنتخذ ما يمكن من الاحتراز، ولنتوكل على الله؛ فـ"الله خير حافظا وهو أرحم الراحمين".
وما أتعسنا إن لم يشعر الأهل والأولاد بفائدة من وجودنا في البيت معا .. وما أشقانا من أهل إن انشغلنا عنهم ونحن معهم بالهواتف والأخبار ولم يجدوا في حضورنا قيمة مضافة!
إنها محنة؛ ولكننا بحسن التدبير واستغلال الحجز المنزلي تنقلب منحة!
دمتم في حفظ من الله وسلامة.