من عقد النقص

07 يناير 2017
+ الخط -
في كندا سلسلة مخازن كانت تبيع كل غرضٍ بدولار واحد. وقد لاقت رواجاً كبيراً، وخاصة مع ازدياد عدد الفقراء في المجتمع الكندي في زمن العولمة. يجدُ الزبون الذي حرَّمه كسله وغابت عنه نعمة الله في هذه المخازن، الكثير من الأشياء له ولأولاده. ولكن هذه الأشياء سرعان ما يتم رميها لأنها تتعطَّل بسرعة. مصدرُ أغلبيَّة هذه المواد هو الصين. وللأمانة، يجب الإشارة إلى أنَّ قلة جودة المواد ليس سببه الصين التي تريد أن تغزو أسواق العالم بموادها الرخيصة، وإنَّما في كلّ الأحيان، يتم تصنيعها بناءً على طلب التاجر الذي يعرفُ حاجات الناس الفقراء في وطنه، وقدرَتهم على الدفع. معَ مُرور الوقت، أصبح من المتعارف عليه، أن بضائع سلسلة هذه المخازن مُخصّصة للفقراء بالدرجة الأولى، بما في ذلك المواد الغذائيّة التي تُبَاع فيها. الأسبوع الماضي، قال لي أحد الأصدقاء المُتقاعدين، والذي دخله لا يسمح له ”بالعنطزة“ وشوفة الحال، كحالي تماماً، "في دولاراما (وهو اسم المخزن)، توجد مُعلّبات ممتازة، منها مثلاً، علبة يالنجي (ورق عنب دون لحمة، صيامي بالتعبير المسيحي)، صناعة تركيَّة، وهي طيبة جداً، ورخيصة جداً، سعر العلبة دولار وربع، ووزنُها 280 غراماً". والأهم من كلّ ما سبق، أنَّ مكوّناتها صحيّة رغم ثمنها الرخيص، وعندها قدرة على منافسة مثيلتها اليونانية.

وجدت نفسي البارحة وحيداً أمام دولاراما، الموجود في أحد المراكز التجارية الكبرى، بعد أن أهملتني زوجتي التي لا تستطيع مقاومة إغراء موضة الثياب وأسعارها المُخفَّضة بعد موسم الأعياد، فتركتني وذهبت لتمارس هواياتها في ”البحش والنكش“، لعلها تعثُر على فستان ”شهرزاد“ فتشتريه، كي تحكي مساءً لـ"شهريار" قصص السوريين في كندا. المهم، اقتحمت الأبواب الوهمية، قلت الوهمية، لأن المحلات التجارية هنا تتخلى شيئاً فشيئاً عن أي شيء يُشكِّل حاجزاً أمام الزبون ومنها الأبواب. ودخلت باحثاً عن نصيبي من ”ذهب“ تركيا الضائع في الأسواق الأميركية والكندية. بعد بحث، عثرتُ على ضالتي، فحملت ثلاث علب يالنجي، وتوجَّهت نحو الصندوق كي أدفع ما يتوجَّب علي، فقد قررت أن أستغيب زوجتي، وأفتح علبة منها مباشرة، لسد شهوة الأكل التي خلقتها الدعايات المنشورة في كل مكان، وبدأت تكبر داخل ”كرشي“ الكبير أصلاً.


وقفت بالدور مثل كل الكنديين المطيعين لنظام بلادهم، وإذْ بابني وصديقته الكندية بالصف الآخر، الموازي لصفي. كان يحملُ رفشاً بلاستيكيّاً لتنظيف الثلج عن السيارة، فنحن في موسم الثلوج، وكانت صديقته الجميلة تحملُ قنينة ماء بلاستيكية، قال لي ابني: "هاي بابا".

قلت له: هاي ورحمة الله وبركاته.

قال باستنكار واضح: أنت مش معقول، مو عيب تشتري مواد غذائية من هون؟؟

قلت له: ولماذا العيب يا ولدي ”البرجوازي“؟

قال: لا أحد يشتري الأكل من هنا، اذهب إلى أدونيس (محل للمأكولات العربية) وخذ يالنجي من عنده.

قلت له: هناك العلبة بثلاث دولارات، وهي صناعة يونانية، وأعرفها جيّداً، هذه التي بين يدي، تساوي ثلث سعر الأخرى، وأحبّ أن أجرّب التركية، فهل عندك مانع؟

كان يبدو محرجاً أمام صديقته الكندية، وهي ترى والده يشتري طعاماً رخيصاً، انتبهت صديقته للموقف البايخ الذي وضع نفسه فيه، فتداركت الأمور، وقالت له: "هل تعرف أن أمي تمرّ من وقت لآخر إلى هنا، كي تتسوق بعض حاجاتها؟".

قلت لها: بلّغي أمك أنني معجب بها، وبانسجامها مع قناعاتها.


جلستُ على إحدى الطاولات المنتشرة أمام دولاراما، وأخرجت علبة من الكيس البلاستيكي الذي دفعت ثمنه 5 سنتات، وفتحتها، وعزمت ابني وصديقته على الطعام. الصبية قالت: "شكراً". أما ابني، فقد هز رأسه وابتعد عني مثل طاووس، مُطوّقاً خصر صديقته الرقيق، والذي يدل على مجاعة متوارثة. أما أنا، فأكلت اليالنجي التركي الصيامي بمتعة حقيقية لمذاقه الطيب، ولأنَّه ذكرني بالأيام التي قضيتها في عاصمة التاريخ، وعاصمة المطابخ؛ إسطنبول.
دلالات
65BA1F44-59A2-4240-B737-8FB8776C9F64
65BA1F44-59A2-4240-B737-8FB8776C9F64
ميخائيل سعد
ميخائيل سعد

مدونات أخرى