من اللاهوت إلى الطاغوت

17 مايو 2017
+ الخط -
حادثة إجرامية جديدة في مصر كل أسبوع يدفع ثمنها الأبرياء، ويتفاخر باقترافها متطرفون لم يتوقفوا لمراجعة نتائج أفعالهم بعد، حتى لو تسببت جرائمهم في مساعدة من يشبههم تطرفا وجنوحاً من السياسيين في تصدّر المشهد، على نحو ما يجري في الولايات المتحدة وفرنسا وهولاندا والنمسا وغيرها، ولا يبدو في الأفق القريب أن مجابهة هذا العنف بعنفٍ مضادٍّ سوف توقفه، فللأمر جذورٌ في الاعتقاد والعادات والمفاهيم والقيم المجتمعية تجعل ظاهرة "الإرهاب" أمراً متجاوزاً لدينٍ بعينه أو مجتمعٍ بزمانه، وهو ما يتطلب حتماً الدخول في فهم بنية العنف الكامنة في تلك المفاهيم عبر الأديان والمعتقدات المختلفة، من اللاهوت الذي يفرض سطوة تفسيره الأحادي للنص، إلى الطاغوت الذي يفرض قوة سلطانه وسيطرته باسم الرب أو باسم الشعب على السواء، وهذا الفهم ضروريٌّ حتى يمكن التعامل "الجاد" مع الظواهر التي نجابهها من دون تسطيحٍ من ناحيةٍ، أو استغلال سياسي ضال من الناحية الثانية، وبينهما يموت ناسٌ، وتزهق أرواح وتدمر بلاد وتهدم صوامع وبيع وصلوات. 

أصدر أستاذ الفلسفة الإسلامية، يوسف زيدان، في العام 2010 كتاب "اللاهوت العربي وأصول العنف الديني" بعد أسابيع من إطلاق مجرمين النار عشوائيا على المصلين في كنيسة نجع حمادي في صعيد مصر، بعد أن فرغ هؤلاء من أداء قدّاس عيد القيامة، ما أدى إلى مقتل عدد من الأبرياء. ولما كانت الحادثة المشؤومة تلك قد أعقبت جدلاً حاداً اندلع لأشهر طويلة بين مؤلف الكتاب وشخصيات مسيحية (وقيادات الكنيسة المصرية)، بسبب ما اعتبره هؤلاء عدواناً من زيدان "المسلم" على العقيدة المسيحية الأرثوذكسية في روايته "عزازيل".
وبعدها بعامين، عقب الربيع العربي مباشرة، أصدر أستاذ الدراسات الإسلامية في جامعة كولومبيا في نيويورك، وائل حلاق، كتابه "الدولة المستحيلة"، وتم ترجمته وإصدار طبعته العربية بعدها بحوالي ثلاث سنوات من المركز العربي للأبحاث والدراسات ضمن سلسلة ترجمان، ويؤكد فيه أن مفهوم الدولة الإسلامية يتناقض مع فكرة الدولة القومية الوطنية بشكلها المعاصر أصلاً، وأن قيامها في العصر الحديث ينطوي على تناقض بنيوي ومعرفي، يمثل استحالة التحقّق، حيث إن النسق القيمي والأخلاقي في الإسلام هو الأصل المرجعي، وليس شكل الدولة ولا إطارها، وأثار الكتاب المهم جدلاً كبيراً، وصل إلى حد اتهام مؤلفه بأنه متآمر على الإسلام، باعتباره مسيحياً من أصل عربي، على الرغم من جهد حلاق وإسهاماته البارزة في كتبه السابقة في شرح تاريخ الفقه والتشريع الإسلامي وأصوله، وتزامن هذا كله مع انتشار ما تعرف باسم الدولة الإسلامية (داعش).
وتبدو الحكاية السابقة عن ظروف الإصدار ضروريةً في الكتابين اللذين يرد ذكرهما، هنا، على سبيل المثال، لإدراك كيف أن الأطروحات النظرية في الكتابات الجادة، وإنْ نحت إلى التأصيل
والتجريد، إلا أنها كانت تجري على السطح الساخن للحدث السياسي والمجتمعي طوال الوقت، وتنطلق منه وإليه في محاولةٍ للتفسير والتفاعل المشكور. ومع ذلك، يشتبك الناس مع ظاهرها من دون الاستفادة عادةً من فكرتها الجديدة، فلم تنفع، حتى اليوم، تصورات زيدان "المسلم" ولا تأصيلات حلاق "المسيحي" وغيرهما، في حلحلة المفاهيم المجتمعية والبحثية عن العنف المجتمعي والسياسي المنطلق من خلفية دينية، وجرى استدعاء شكليات واشتباكات سطحية، منها دين من يكتب، ونيته في ما كتب، ليذهب هذا الجدل هدراً ويبدّد جهداً بحثياً جاداً، نحن أحوج ما نكون إليه مع كل قنبلة تنفجر أو رصاصة تنطلق إلى صدر بريء. لذلك تتكرر الحوادث، وينتشر المتطرفون، بينما يتعارك المعنيون حول المقولات وتوافقها أو اختلافها عما ألفوه ويعرفونه قديما.
ففي تصور مفاهيم القتال في الإسلام، يطرح يوسف زيدان، على سبيل المثال، فكرة أن الإسلام، منذ يومه الأول، بدأ مشتبكاً بقوةٍ مع الواقع المحيط به، وكثيراً ما أشار القرآن الكريم، المكي، إلى مفردات الواقع المعيش، وكان من المنطقي، في هذا السياق، أن يتعرَّض الإسلام إلى الواقع الدينى السائد في زمانه، وهو الواقع المتمثل أساساً في اليهودية والمسيحية. ولكن، على نحوٍ مختلفٍ عن السجالات التى دارت، فالإسلامُ من خلال النص القرآني، كان يقدِّم نفسه باعتباره الحقّ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه الموحى به من رب العالمين، لا الاجتهاد الذي أدّى إليه فكر المتفكرين. وقد قدَّم القرآن الحلول الإلهية لكل ما كان اليهود والنصارى فيه يختلفون، من دون الحاجة لوسطاء من رجال الدين، يشرحون طبيعة الله أو يحتكرون اللاهوت، ويستبدون به.
ولأن العقلية العربية التي نزل فيها القرآن عملية براغماتية، تعنى بالواقع المعيش، فقد مدَّهم القرآن "المدنى" بنظام حياتي. ومن هنا، تحول الدين، على أيديهم، إلى رايةٍ يحاربون تحتها بغية تأسيس الدولة.
ولما فُتحت البلاد المحيطة بجزيرة العرب، حيث كانت تعيش المذاهبُ المسيحية القديمة، كالأرثوذكسية والآريوسية والنسطورية، انتقل القرآن من محلِّه الأول (اللغة العربية) ومع المحل الثاني (المسلمين) إلى المحل الثالث الذي هو الجماعات الإنسانية غير العربية وغير الإسلامية، سواء من ذوي الثقافة العربية، كالأنباط وأهل الممالك القديمة في الهلال الخصيب، أو من ذوي الأصول غير العربية، كالمصريين والفرس واليونان .. فظهر في أهل المنطقة الجغرافية نفسها التي شهدت، من قبل، نشأة وتطور اللاهوت العربي المسيحي وتطوره؛ نمط جديد من مرجعية الحكم، بما يعني أن "الدولة" تشكلت وفق المكان الذي حلت به، ولم تكن غايةً في ذاتها، ومن استثمر النص الديني ليفرض سلطانه كان هو الطاغوت بعينه، ولو تسربل برداء المسلمين.
وهو ما يدعو إلى التوقف أيضا عند حركات العنف السياسي الأولى في الإسلام، مثل الخوارج 
والمعتزلة، ومصيرهم المأساوي أيضا مثل سابقيهم (المهرطقون المسيحيون)، ما يشير إلى أن صناعة اللاهوت العربي الممتد عبر الأديان الثلاثة من اليهودية والمسيحية والإسلام، إنما ينقسم إلى مدرستين ترتبطان بالجغرافيا العربية: مدرسة الهلال الخصيب في الشام بمعناه الواسع القديم، وهي تتميز بالخروج والتلقي الواقعي المحتج غالبا المتأثر تماما بالثقافة العربية، ومنها خرج معظم المهرطقين وأيضا رموز كبيرة للخوارج والمعتزلة. ومدرسة الإسكندرية والوادي المصري وامتدادها العمراني شرقا وغربا، وتتميز بتأثرها الدائم بالفلسفات الفرعونية واليونانية القديمة، وبالتالي تميل دائما إلى التجسيد وخلط المعتقدات القديمة بالحديثة الوافدة.
لكن الجميع يشترك في بذور العنف التي تولد مع اختلاف التفاسير والاعتراض على سيطرة فئة، واستبدادها بالله وباسمه على اختلاف الأشكال عبر الزمن والديانات.
وغالباً ما تبدأُ الدياناتُ بانبثاقةٍ فوَّارة، يتحدّد لها مع الأيام مسار خاص، بينما يكون النظام السياسى السائد فى المجتمع الذي ظهر فيه الدين الجديد، قد تشكل ببطء فى زمن سابق، حتى استقر على نحو ما، قبل ظهور هذا الدين بين الجماعة. وهنا، يحدث الانقلاب الأول فى مجال الدينى /السياسي، لأن الدين الجديد نظراً لطبيعته الانبثاقية، لا يقرّ النظام السياسي القائم، ويسعى إلى خلخلة رسوخه، أو حتى إلى تقويضه التام، ليفسح مكاناً لنفسه بين الجماعة. وتصطدم الحالة الدينية الوليدة بالحال السياسي القائم، مع بدء انتشار الدين، وخروجه من شخص النبي إلى كيان الجماعة التي هي مجال الضبط السياسي.. وهنا يدخل المجتمع في حالة خريفية كئيبة/ كالتي تتجلى مظاهرها حولنا في العالم، في تفجير الآمنين، ونشر الفوضى، وانهيار الأنظمة السياسية والمنظومات المجتمعية.
ثم يبدأ العنف من النظام القائم حفاظاً على ذاته وسلطانه، فيواجه الدين العنف السياسى الأول بحالة الاحتمال والهجرة والرضا. وهي حالة مواجهة تبدو في الظاهر سلبية، لكنها، في واقع الأمر، أكثر إيجابيةً من الفعل السياسي العنيف، ذلك لأن العنف السياسي المادي، مهما بلغت ضراوته، محدود. والمؤمنون الأوائل يتسلحون عادة بشحنةٍ وجدانيةٍ عالية، وبطاقةٍ روحيةٍ لا محدودة، وبأمل ويقين تام، فأهل الدنيا آخر هم السياسة، والدين يتجاوز الدنيا ويصبو إلى الآخرة. الحياة الأولى هي عماد التوجه السياسي، بينما الخلود غاية الدين.
في حالات الانبثاق الجزئية (عندما تظهر خصوصية دينية لفرد أو مجموعة ما من المجتمع) داخل المنظومة الدينية السائدة، يصير جدل الديني/ السياسي معقداً، فالحركة الدينية الجديدة، غالباً ما تستند إلى قراءة خاصة لأصل العقيدة، على نحو مخالفٍ لقراءة الجمهور وللقراءة السياسية، قراءة الحاكم. وهما في جوهرهما قراءتان مدعومتان بتراثٍ هائلٍ من الجهود المفسرة للدين، على نحو توافقي غير صدامي. ولكن القراءة الجزئية تأتي رافضة، غير توافقية. وهنا تكون المواجهة حتمية.
ويتحول الطرح المنفرد إلى رمز، حيث نموذج "داعش" وتتحوّل مقاومته إلى استبدادٍ، ويكسب الطرح أنصاراً، لأن الطرف الآخر يصر على الاستمرار في استبداده الذي غالباً ما يكون أيضا باسم الله.
دلالات
C96B2BCD-C629-481F-B2F1-AFB3FDAEFA90
C96B2BCD-C629-481F-B2F1-AFB3FDAEFA90
حسام الدين السيد

صحفي مصري، ساهم في تأسيس وإدارة صحف ومحطات فضائية ومواقع إلكترونية.

حسام الدين السيد