لسان السلطان الذي يبتلع صوت الناس

22 مارس 2017
+ الخط -
لم يتوقف أهل مصر عن الانقسام حول غالبية القضايا العامة، منذ قيام ثورة يناير 2011، ويأخذ الانقسام عادة شكل الفريقين المتناحرين، وليس الشكل الطبيعي للآراء المتعدّدة داخل المجتمع التي تثري التفكير وتنوع الاختيار وتنضج القرار، وسبب رئيسي لهذه الظاهرة هو الأجواء الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الخانقة المحيطة بالمجتمع المصري، على امتداد السنوات الماضية.
وكان جديد ما أثير من قضايا، هل يساند المنحازون للثورة والمؤمنون بأهدافها، أي شخص يواجه عسفاً من السلطة الحاكمة، حتى لو كان هذا الشخص أصلا يعمل أداة لهذه السلطة يروّج أفكارها ويزين فعالها؟ على اعتبار أن الدفاع عن الحق والحرية واجبٌ ومبدأ أصيل، مهما كان الشخص، وأيا كانت الواقعة، فجاءت إجابة السؤال كالعادة تعكس غرقاً في الإشكاليات الجزئية، وانغماسا في تفاصيل الأزمة المعتادة، بين من يرى وجوب المساندة انطلاقاً من المبدأ ومن يرى أن هذا صراع داخلي بين أجنحة السلطة، لا ناقة لعموم الخلق فيه ولا جمل، وسرعان ما ينطوي، وترجع المياه إلى مجاريها.
كان وعي السلطة العسكرية بضرورة وجود "لسان للسلطان" وأدوات للاستحواذ والسيطرة على الرأي العام حاضراً، طوال الوقت، فمع أول تحقق لجيش مصري بجنود مصريين في عهد الوالي العثماني، محمد علي باشا، كان خطاب الجنود وشحذ همتهم وتبرير المعارك التي يخوضها الجيش ضرورةً قتاليةً وسياسيةً في آن. وفي عهد الخديوي إسماعيل، صدرت أول مطبوعة عسكرية في الوطن العربي كله "الجريدة العسكرية المصرية"، وكانت مخصصة لخطاب عموم الناس، وتكوين رأي عام تجاه دور الجيش في الدولة المصرية، في حين صدرت مطبوعة أخرى بعدها بثماني سنوات "جريدة أركان حرب الجيش المصري"، وكانت مخصصة للعسكريين، وتتناول شأنهم، وتعمل على رفع روحهم المعنوية وكفاءتهم القتالية، وكان هؤلاء الأداة والمحرك لعجلة الدولة والحادي والمرشد لحركة المجتمع.
أي أن السلطة العسكرية حرصت دوماً على أن يكون للجيش أدواته الإعلامية، لتعزيز المهام
القتالية من جانب، لكن أيضا لتعزيز سلطانها ونفوذها في المجتمع، من جوانب أخرى، وكان مضمون الخطاب العسكري الإعلامي الموجه إلى الناس دوما مستمدا من الجملة التي قالها نهاية القرن التاسع عشر اللورد نورث كليف، مالك أغنى صحيفة في بريطانيا العظمى، عندما سئل عمّا يهم الناس، فأجاب بكلمة واحدة: "أنفسهم"، فهو خطابٌ يعدهم بالوفرة والرخاء، ويشرح جهود السلطة في تعبيد الطرق، وشق الترع، وإقامة المشروعات وحماية البلاد والذود عن الحياض، بما يحفظ الأنفس، ويضمن لها أمنها ولقمتها وعيشها المطمئن، وما اختلف قيد حرف مضمون الخطاب الذي تسطره السلطة، وتبثه على الناس من يومها حتى يومنا، تعدهم بالفرج وتمنيهم الغنى، وتطمئنهم على الأحوال في ظل الوالي دام ملكه وزاد عزه، إنه لسان السلطان يبتلع صوت الناس ويكتمه.
وفي 4 يوليو/ تموز 1953، بعد أشهر من قيام الجيش بانقلاب وتولي الحكم في مصر، وفي مستشفى الدكتور مظهر عاشور في القاهرة، بعد أن أجريت للبكباشي، جمال عبدالناصر، عملية استئصال الزائدة الدودية، ذهب لزيارته الصاغ أنور السادات، وتحدثا عن صحافة الثورة، فيقول السادات إن عبدالناصر فاجأه، في ذلك اليوم، أنه كان مشغولا في مرضه بموضوع مهم للغاية، وكلفه بالإشراف على إصدار أول صحيفة يومية، تصدرها ثورة يوليو، لتدعو لها، وتتبنى أفكارها وتدافع عن سياساتها، وقال له إنه لابد أن تكون للثورة صحافتها. وطلب السادات مهلة للتفكير، لأن إصدار صحيفة يومية أمر شاق وعسير، ويحتاج إلى استعداد وتجهيزات، وعلى الرغم من أن السادات عمل فترة في دار الهلال، إلا أن إصدار صحيفة يومية يلزمه مطابع وعمال مهرة وأسرة تحرير، وإدارة توزيع وإعلانات، وعاد السادات، بعد يومين، إلى عبد الناصر ليخبره أن المهمة مستحيلة، وتحتاج إلى وقت طويل. ورد عبدالناصر: إذن، كيف قمنا بالثورة وسط كل المصاعب التي كانت حولنا، الثورة لابد أن تكون لها صحافتها، والصحيفة لابد أن تصدر قبل نهاية العام. .. واستجاب الصاغ أنور السادات، عضو مجلس قيادة الثورة، وأول صوت سمعه الناس يتلو عليهم بيان قيامها في الإذاعة، فقبل أمر الكولونيل ناصر قائد الثورة، ورأس مجلسها العسكري الذي ظل مشغولا بأمر الأدوات الإعلامية التي تساعده على السيطرة. من يومها، لم يسمح الجيش أن يتولى وزارة الإعلام إلا عسكري الخلفية أو الولاء، وأصبح هناك أشخاص بذواتهم يمثلون مصدر المعلومة، وفق ما تريده السلطة، حتى لو كانت ضلالاً مبينا، على شاكلة ما كان يبثه المذيع الشهير أحمد سعيد من بياناتٍ نارية تتوعد إسرائيل بالأهوال، وتصف حجم خسائرها في الحرب، في إذاعة صوت العرب، حتى استيقظ الناس في يوم على وقع الهزيمة الفاجعة.
كانت الأدوات والوسائل والقنوات الإعلامية تستخدم، في الحرب، لرفع الروح المعنوية للجنود، وكانت إدارة التوجيه المعنوي في الجيش تتولى صياغة البيانات العسكرية التي توجه الرأي العام، وتستعين بذلك بكبار الكتاب المقربين، وفي مقدمتهم الراحل محمد حسنين هيكل الذي صاغ كلمة " النكسة"، للتخفيف من وقع هزيمة يونيو 1967، والذي حول صحيفة الأهرام العريقة إلى أداة أساسية لإكساب الشرعية للسلطة العسكرية، لكن السلطة الحاكمة لم تنس أيضاً استخدام الوجه المدني الترفيهي للأداة الإعلامية، وساهمت في دفع إنتاج غنائي كبير ألهب حماسة الناس، بأصوات الكبار أم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم وغيرهم، بالإضافة إلى الإنتاج السينمائي والبرامج التلفزيونية والإذاعية، بل سبقت ذلك كله بتأسيس التلفزيون العربي، بعيد حرب 1956، ليكون أداة التواصل بين القيادة العسكرية والناس. وعلى الرغم من ذلك، يشتبك رئيس البرلمان الحالي في مصر مع صحيفة الأهرام التي كانت دوما لسان السلطة وصوتها، لأن طريقة تعبيرها عن أنشطة البرلمان لم تعجبه، فيثير زوبعة جديدة، ويعود الناس إلى الانقسام حول الحادثة، متجاوزين القضية الأصلية عن الحرية الإعلامية التي لم تتحقق يوماً من الأساس.
في منتصف التسعينيات، يؤسّس الجيش فرعا لدراسات المعلومات والأمن القومي في كلية
الدفاع في أكاديمية ناصر العسكرية، ويجعلها مخصصةً للصحافيين والإعلاميين الذين يختارهم بنفسه، ويقدم لهم منحا في هذا البرنامج، ويحصل بعضهم على الدكتوراه، ومنهم من تولى، بعد ذلك، رئاسة التلفزيون ورئاسة تحرير كبريات الصحف ووزارة الإعلام بالطبع.
في عقد التسعينات أيضا، كانت مصطلحات "الريادة الإعلامية" قد بدأ تداولها على لسان ضابط المخابرات السابق ووزير الإعلام اللاحق، صفوت الشريف، أطول من مكث في مقعد هذه الوزارة، والذي أطلق سلسلة المحطات الفضائية الخاصة، من حيث ملكيتها لعدد من كبار رجال الأعمال الذي ظهروا فجأة على السطح، وكلهم كانوا مرتبطين بمصالح وثيقة مع السلطة، وغالبيتهم أعضاء في حزبها الحاكم، فجاءت الانفراجة في الشكل والعدد، من حيث محطات تلفزيونية جديدة وصحف خاصة وسقف مرتفع نسبيا للكلام. وفي واقع الممارسة، استمر الخطاب يدور في فلك السلطان وما يريد، واستمر العسف والعصف بالصحافيين الذين يخالفون هذا الخط المرسوم أو يشاغبون عليه.
في أعقاب ثورة 2011، أعلن قائد المخابرات العسكرية وقتها، عبد الفتاح السيسي، في حوار، تم تداوله مصورا في فيديو لاحقاً، أن الجيش لن يتمكّن من إحكام سيطرته على مقاليد الدولة ثانية، إلا عبر "أذرع إعلامية طويلة وقوية"، على حد تعبيره، ثم كرّر التعبير بصيغ مختلفة في مناسبات عديدة، منها قوله إن عبد الناصر كان محظوظا بإعلامه الموالي له. بعدها مباشرةً، بدأت تظهر محطات الإذاعة والتلفزيون التي يمتلكها أشخاص لهم خلفيات عسكرية، أو عندهم ارتباطات بيزنس مع الجيش من زمان، وأصبحت محطات مثل راديو 9090، وأون تي في، والمجموعة الجديدة إم دي سي، كلها معبرة عن فلسفة" لسان السلطان" وأدواته الإعلامية، ليخاطب الناس عن أنفسهم، فيكتسب بذلك شرعية الوجود والاستمرار. والأهم أن يخفت صوت الناس، فلا يصبح هناك قول بعد قول الألسن الرسمية وشبه الرسمية، والمتصلة بروابط وتعليمات مع تلك الرسمية، ولا معلومات إلا ما تسمح به هذه القنوات، سواء كانت محطات تلفزيون أو إذاعة أو صحف أو مواقع إنترنت.
إن رصد خطاب وسائل الإعلام التي تديرها سلطات غير ديمقراطية ومتسلطة، سواء بنفسها أو من خلال وكلاء، ورصد أنماط الملكية وشبكة العلاقات، ومعرفة نوع الخطاب الذي يوصل إلى صياغة رأي عام بين شقي رحى، حقائق المعلومات، وصناعة الترّهات. كل هذا يوضح طريقة صناعة الرأي لصالح نمط معين من السيطرة الدائمة، وهو أوْلى بالاهتمام والبحث عن مواقف ومخارج، من الانغماس في معارك وقتيةٍ، ترتبط بموقفٍ هنا أو شخص هناك، ما تلبث أن تنتهي مع أزمةٍ جديدةٍ، تلقي بها شباك السلطة، لتصطاد أحلام العصافير، أو يبقى الوضع على ما هو عليه.
C96B2BCD-C629-481F-B2F1-AFB3FDAEFA90
C96B2BCD-C629-481F-B2F1-AFB3FDAEFA90
حسام الدين السيد

صحفي مصري، ساهم في تأسيس وإدارة صحف ومحطات فضائية ومواقع إلكترونية.

حسام الدين السيد