من الشكوى إلى الخسارة

03 أكتوبر 2018
ليس في حاجة إلى مكتبة حتى يستمتع بقراءاته (Getty)
+ الخط -

في غضون السنوات التي سبقت القتال الأخير في اليمن، كانت مكتبات يمنية عدّة تبيع الكتب الأدبية والسياسية الصادرة في بيروت والقاهرة، تتحوّل إلى محال لبيع القرطاسية. كان أصحابها يتذمّرون من كساد بضاعتهم ، لذلك تحوّلوا عنها إلى ما يتطلبه السوق. ينطبق ذلك على مكتبات كثيرة في شوارع صنعاء وعدن وغيرهما من مدن يمنية. وقد ضاعف الوضع سوءاً توسّع ظاهرة التنظيمات الإسلامية الأصولية التي حوّلت وجهة القارئ نحو الكتب الإسلامية التراثية فقط لا غير. مع ذلك، ظلت الأمور في نطاق الأزمة من دون أن تتعدّاها.

المكتبات العامة حافظت على وجودها، مع التذمر بالطبع من نموّ وانتشار الوسائط الإلكترونية الحديثة، والتخلي بالتالي عن عادة القراءة "القديمة" و"الرجعية" بين جيل الشباب. وكانت "دار الكتب" في صنعاء تشكو من القاعات الفارغة التي هجرها القراء والباحثون، بينما الكتب مكدّسة على الرفوف في حالة انتظار من لا يأتي. ومع أنّ الدار أنشئت في عام 1971 بمساعدة كويتية، إلا أنّ بداياتها لا تتلاءم مع ما صارت إليه من فراغ. إذاً، اختلف الوضع بين العقود السابقة والحالية التي سبقت انفجار الوضع. وكان الإداريون في المكتبة يعيدون السبب أحياناً إلى أنفسهم، وإلى الصعوبات التي يواجهونها في تزويد المكتبة بالجديد، وتحديث أجهزتها وما شابه. لكن من الممكن أن تسمع تذمّراً من أساتذة الجامعة الذين يعمدون إلى وضع مقررات جاهزة تشبه وجبات الأطعمة السريعة، تخلو من أيّ إحالة على مصادر ومراجع. وبناءً عليه، لم يعد الطالب اليمني مهتماً بأن يقصد المكتبة العامة والإفادة ممّا لديها من مصادر في بحث يعدّه أو توسيع مداركه في الاختصاص الذي اختاره. وما يصحّ على "دار الكتب" يصحّ على سواها من مكتبات عامة.

قد تكون الأسباب متنوّعة ومن ضمن حلقة متكاملة: تجهيزات عتيقة، وقاعات غير مجهّزة بوسائل تكنولوجية، وأساليب في الحفظ والفهرسة لم تعد فعالة، وأساتذة وجامعات يسهّلون الأمور على طلابهم، ومقررات لا تشجع على التنقيب والبحث... كلّ هذه عناصر كانت تجعل الموظفين والإداريين في حال من العزلة أو على هامش الدور الذي اختاروه في خدمة الطلاب والباحثين. لكنّ المصائب لا تأتي فرادى، كما يقولون. ثمّ جاءت الحرب بما تفرزه من تحوّلات ومسارات ومسارح لتقضي على البقية الباقية من دور "دار الكتب" وسواها من مكتبات عامة. لكنّ ما حدث كان أفدح. فإلى خسارة القرّاء النادرين، باتت مخطوطات اليمن في مهبّ عواصف النار من دون أيّ نوع من أنواع الحماية. الصور التي تعرضها محطات التلفزة لمبانٍ تراثية وقد فجّرت شرفاتها ونوافذها وأبوابها وجملة هندستها، هي الظاهر. أمّا المخفي، فهو سرقة ما تبقّى من تراث اليمن سواء أكان كلمة أو تمثالاً أو أيّ مستند تاريخي أو تراثي.




ومن باب الذكر، نشير إلى أنّ ثمّة متاحف أوروبية تتضمن أقساماً مذهلة من التاريخ اليمني. وينطبق ذلك على المكتبات التي تضمّ مخطوطات عربية، إذ يحتل ما أُنتِج في اليمن مكاناً مهماً. ولا شكّ في أنّ ما يتمّ وضع اليد عليه يجد طريقه سريعاً ومن دون حواجز تذكر نحو الخارج، قريباً كان أو بعيداً.

صحيح أنّ الشعب اليمني يعاني انتشار الكوليرا من جرّاء المياه الملوّثة التي يتناولها، لكن من الصحيح كذلك أنّه يعاني من حياة ملوّثة أقرب ما تكون إلى الجحيم تكاد تقضي على مخزونه ومستقبله الثقافيَّين والفكريَّين معاً.

(باحث وأستاذ جامعي)
المساهمون