من التحرير إلى التدمير
يبدو أن العرب لا يقرأون التاريخ، وحتى إذا قرأوه لا يستخلصون الدروس، لأن الحرب اللبنانية كانت كافية، لكي تشكل لديهم الوعي بكارثية الحرب، وأنها تدمر في أيام قليلة، ما بُني في عقود، وتفادي ما يقع، اليوم، من حروب مأساوية في سورية والعراق وليبيا واليمن ومصر، تدور بين شركاء الوطن، وخلفت خسائر كبيرة في الأرواح والبنيات التحتية، وعمقت الجراح والانقسام بين فئات المجتمع، نتيجة الانتكاسة التي أصابت ربيع العرب الذي أزهر قبل أربع سنوات، وحمل معه آمالاً عريضة بالتحرر من الاستبداد والفساد، وبزوغ فجر الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. والسؤال الذي ينبغي أن نجيب عنه: إلى متى سيظل العرب حطباً للحروب التي يشعلها أعداؤهم؟
من المحزن أن نرى حلماً جميلاً يتحوّل إلى كابوس مرعب، ربيع العرب الذي أوقد جذوة الأمل في نفوس الشعوب، لم يعمر طويلاً، وانقلب إلى حروب أهلية، بين أبناء الوطن الواحد، وكان يُفترض بهم أن يجدوا أرضية مشتركة وصيغة توافقية، تغلب القواسم المشتركة والمصلحة الوطنية على الأطماع والمصالح الفئوية الضيقة، وقد عرفت أطراف خارجية معادية، كيف تلعب على الاختلافات البينية، وتنفخ فيها، وتحوّلها إلى صراعات وانقسامات، وتشعل حروباً أهلية، امتدت ألسنتها إلى عدد من الدول العربية.
في القرن الماضي، خاض العرب حروب تحرير وطني ضد الاستعمار الأجنبي، لنيل الاستقلال، وبناء الدولة الوطنية ذات السيادة، وكانت النخب العربية تملك حساً وطنياً وقومياً، ووعياً سياسياً، ما جعلها تنأى بنفسها عن الصراعات التي تهدد الوحدة الوطنية، وتصب في مخططات الأعداء. لكن، بعد حصول الاستقلال الجزئي للدول العربية، تفجر الصراع والانقسام بين القوى والتنظيمات السياسية حول السلطة، وظفته القوى الخارجية، لإعادة بسط هيمنتها على هذه الدول، من خلال التحكم في قرارها السياسي والاقتصادي والثقافي..
واليوم، يخوض العرب حروباً ضد بعضهم، بإيعاز وتشجيع وتسليح خارجي، حيث بمجرد سقوط بعض الرؤساء العرب، أخذ الصراع يشتد على السلطة بين الفرقاء السياسيين، على الرغم من أن المرحلة انتقالية، وتستدعي التوافق والتنازل من أجل تجاوز الخلافات، وهو ما جعل القوى المعادية في الداخل والخارج تدخل على الخط، لتقلب الطاولة، وتشعل النيران في دول عربية كانت مرشحة للدخول في انتقال ديمقراطي واعد، يقطع مع زمن الاستبداد، لكن العرب أخلفوا، مرة أخرى، موعدهم مع اللحظة التاريخية الضائعة.
الآن، طويت صفحة ربيع الحرية إلى إشعار آخر، وانخرط العرب في حرب خاسرة مدمرة للإنسان والعمران، يجربون فيها مخزون الأسلحة والآليات العسكرية التي ظلت عقوداً مخزنة، وصرفت عليها ميزانيات ضخمة، ذهبت إلى حساب الدول الكبرى، وكان يجدر بتلك الأسلحة أن توجه إلى الأعداء، وهذا راجع، بالأساس، إلى أن العرب اليوم لم يعد لهم تخوف من العدو الخارجي، خصوصاً العدو التاريخي للأمة، الكيان الصهيوني، بل أصبح العدو هو المخالف لهم في الرأي أو الفكر، أو من يقف ضد مصالحهم، من أجل مصلحة الوطن. وهذا مؤشر دال على الاختراق الصهيوني للفكر السياسي العربي، وتطويعه وتطبيعه مع الاحتلال، وما يعزز هذا الطرح اختفاء لغة الشجب والإدانة من قاموس الحكام العرب إزاء الجرائم التي يرتكبها الصهاينة في فلسطين، لكن الأخطر أن يصل الاختراق إلى النخب العربية، حيث كان العداء للصهيونية محل إجماع الأمة، أما اليوم فقد أصبحت لدينا نخبٌ لا تجد حرجاً في إعلان تطبيعها مع الصهاينة، وهذا يدل على "صهينة" الوعي السياسي، وتبلّد الحس الوطني والقومي، ومن تجلياته استبعاد نظرية المؤامرة عن قراءة الأحداث والمصائب التي تحلّ تباعاً بالعرب، وعدم الاستفادة من دروس التاريخ، الحافل بالمؤامرات والمخططات الاستعمارية والتوسعية، والتي حيكت في الظلام، من أجل فرض أجندات خارجية، تروم ضرب الوحدة الوطنية والقومية، وتقسيم المقسم وتجزيء المجزأ، ولم تكن تلك المخططات لتنجح، لولا جاهزيتنا وقابليتنا لتنفيذها.
ما تشهده البلاد العربية اليوم من انقسامات وحروب، تدور رحاها بين أبناء الوطن الواحد، وتغذيها النزعات الدينية والطائفية والمذهبية والعرقية، ما هي إلا تنفيذ وتجسيد عملي لتلك المخططات العدوانية التي لا تريد للعرب أن يصبحوا كياناً موحداً وفاعلاً في العلاقات الدولية، وهذا ما ينبغي التنبيه إليه، وأخذه في الاعتبار عند قراءتنا الأحداث الجارية، والحذر من التسليم بما يروج في وسائل الإعلام من أخبار وتحليلات، ومن جملة ذلك فكرة مفاجأة الدول الغربية بالربيع العربي، فحتى، إن سلمنا بأنها لم تكن على علم بتوقيت تفجر الانتفاضات، فالمؤكد أنها كانت تدرك قابلية الأوضاع للانفجار في أية لحظة، إن لم يكن لها دور في تسريعها، تنفيذاً لمخططات معدة سلفاً (الفوضى الخلاقة).
وبالتالي، لا ينبغي أن يغيب عن متابع الأحداث الجارية أن القوى الكبرى كانت، دائماً، تتابع وترصد أدق التطورات والتفاعلات التي تجري داخل العالم العربي. لذلك، أي استبعاد أو تغييب للعامل الخارجي في تحليل ما يقع من أحداث وفهمه، يقدم لنا صورة منقوصة، وقراءة مجتزأة لحقيقة المشهد العربي.
ولأنه بالمثال يتضح المقال، أدت الحروب في السودان بين الشمال والجنوب إلى تقسيمه على أساس ديني، والعراق أصبح قاب قوسين أو أدنى من التقسيم على أساس طائفي ومذهبي، والمخطط نفسه يمكن أن ينسحب على ليبيا واليمن ودول عربية غيرها، إذا لم يستفق العرب، ويقاوموا هذا المخطط الجهنمي، فالعدو الصهيوني الذي زرعه الاستعمار في الأرض العربية، يشكل رأس حربة في جميع المخططات العدوانية التي تسعى إلى ضرب الوحدة الوطنية والقومية للعرب، بزرع الفتن بين أبناء الأمة، وإشعال الحروب بينها، لضرب الاستقرار والأمن في المنطقة، لإضعافها وإنهاكها وتأبيد تخلفها واستغلال مقدراتها.
لم تكن الانتفاضة في تونس لتصل إلى بر الأمان، لولا التدخل الخارجي الذي تمثل في الضغوط القوية التي مارستها الدول الغربية على الرئيس التونسي الهارب بن علي، فاضطر إلى التخلي عن السلطة بعد عقود من الحكم. الأمر نفسه حصل مع الرئيس المخلوع حسني مبارك في مصر وعلي عبدالله صالح في اليمن، وإن اختلف الإخراج، أما في ليبيا فعندما لم تجد الضغوط نفعاً مع القذافي، غيرت القوى الغربية من أسلوب تدخلها، ولجأت إلى استخدام القوة العسكرية لإزاحة الديكتاتور عن الحكم.
في سورية، تغيّر الموقف الغربي جذرياً، حيث اتسم بنفاق وغموض كثيرين، وقد أرجع مراقبون هذا التحول إلى الحرص الغربي على أمن الكيان الصهيوني، في حين ذهب بعض آخر إلى أن تراجع الغرب عن دعم الانتفاضات العربية يعود إلى الخوف من اكتساح الإسلاميين أنظمة الحكم العربية، خصوصاً بعدما أسفرت نتائج الانتخابات عن تصدرهم المشهد، سواء في تونس ومصر والمغرب.. وهناك من رد هذا التحول إلى الضغوط التي مارسها الدول الخليجية على القوى الكبرى، لوقف دعم الانتفاضات العربية، خصوصاً بعد وصولها إلى البحرين.
وعلى كل حال، كانت كل هذه العوامل مجتمعة، إضافة إلى الانقسام الداخلي، سبباً في فشل الانتقال الديمقراطي في ما سُمي بدول الربيع العربي، وكان الحدث الأبرز الذي غيّر مجرى الأحداث في المنطقة العربية، نجاح الانقلاب العسكري في مصر، بدعم وإسناد دول إقليمية ودولية، وصمت الغرب بقيادة الولايات المتحدة عن إعلان موقف واضح من أحداث 3 يوليو 2013، ما فسره مراقبون برغبة الغرب في عدم التضحية بمصالحه مع النظام العسكري، ومع دول الخليج والكيان الصهيوني، الداعمين لهذا النظام.
وإذا كانت الحروب الأهلية المشتعلة وقودها الناس والحجارة، هي بالأساس ذات أبعاد سياسية، بين قوى وأنظمة سلطوية، وقوى سياسية تطمح للحرية والديمقراطية، فإنها أخذت منحى آخر، فتداخل البعد السياسي بالأبعاد الدينية والطائفية والمذهبية والعرقية، وهو منحى خطير، يهدد الدول العربية بمزيد من التقسيم والحروب الأهلية، إذا لم يقم القادة العرب بمراجعة الموقف وتغليب الحكمة وصوت العقل.
ففي مصر، يشن العسكر حرباً مفتوحة على كل الأصوات المعارضة، وقسم البلاد إلى شعبين، وكذلك الشأن في العراق وسورية وليبيا، وأخيرا اليمن الذي يشهد حرباً غير مسبوقة، تقودها السعودية باسم "عاصفة الحزم" ضد دولة عربية أخرى، بذريعة الدفاع عن الشرعية التي انقلبت عليها جماعة الحوثي، في حين أنها تُخفي خوف دول الخليج من التهديد الذي أصبح يشكله التوسع الإيراني في المنطقة العربية.