من أجهض "الحراك الشعبي" في العراق؟

29 أكتوبر 2014

تظاهرة للحراك الشعبي في الأنبار ضد حكومة المالكي (23ديسمبر/أ.ف.ب)

+ الخط -

هاتفني أحد ناشطي "الحراك الشعبي" العراقي الذي اختار اسطنبول منفىً له، ليقول "لقد خُدعنا... وانكسر الأمل"، وشرح لي كيف عملت قيادات في "الحراك" على ركوب المركب الخطر، برفعها راية مكون طائفي معين، على حساب الهوية الوطنية الجامعة، التي كان يمكن أن تكون أساساً في توسيع مساحة "الحراك" وآفاق عمله، ثم في استغلال قياداتٍ أخرى الحراكَ نفسَه لعقد تفاهمات عبرت بها إلى مواقع في السلطة، تاركة "الحراك" وراءها، ولم تعد تعطي اهتماماً لمطالب العفو العام والمصالحة وتعديل الدستور و.. إلخ، فيما رضي بعضها بمكاسب أقل: عقود ووعود بامتيازات في مرحلة لاحقة، وأخرى كان موقفها ملتبساً لا تعرف أين تدير وجهها. ويضيف الناشط بأسىً "وجاءت قاصمة الظهر بتحالف الفصيل البعثي الذي يقوده عزت الدوري مع تنظيم داعش، وتزكيته على أنه "فصيل وطني من فصائل الثورة"، ومنحه بطاقة الدخول إلى الموصل، لتجهض الحراك، وتعيده إلى نقطة الصفر".

قلت له: ربما كان موقف الدوري نوعاً من (خديعة المخادع) التي وصفها ماكيافيلّي بأنها "قمة الحكمة في السياسة". أجابني بمرارة: ألم يدرك الدوري الشرط الذي وضعه ماكيافيلّي نفسه، وهو أن تتم الخديعة في زمانها ومكانها المناسبين؟ واسترسل: توقف زمن الحراك الذي اجتاح محافظات، وعمّر أكثر من سنتين، في الساعة التي أصبحت فيها الموصل في قبضة داعش، فقد أجهضت تلك الساعة آخر أمل في أن يتطور الحراك ليشكل حاضنة لكل التيارات الوطنية التي تؤمن بعراق سيّد ومتحرر من قيود الاحتلال والطائفية والعرقية والفساد، وليكون معبراً نحو عملية سياسية وطنية، تكنس آثار الاحتلال، وتفتح الطريق لحياة أفضل لكل العراقيين".

هنا، تذكرت حالة "طمس الحدود المرسومة بخطوط واضحة"، بتعبير الماركسيين، وأوشكت أن أقول: في بلدنا أزمة حنكة سياسية، أزمة حكمة، أزمة عدم قدرة على قراءة ما يجري، والأهم أزمة ولاء لوطن يغتصب، وينهب، ويستباح، لكنني وجدت نفسي أبرر ما جرى، لعلي أخفف من شعور الناشط باليأس والمرارة، قلت: ربما يكون هذا رد فعل على الظلم والتهميش اللذين عانت منهما شرائح واسعة محسوبة على طائفة معينة، أو "ضرورة ملجئة"، بحسب تعبير متفقهين في الدين.

تهدج صوته، عبر الهاتف، وقد غالبته مشاعر اليأس والإحباط: "لا يا سيدي، علمتنا سنوات المواجهة أن القيادات التي تحمل أفقاً تاريخياً، وقدرة على تجاوز ردود الفعل العاطفية، وحدها تستطيع أن تحمل راية التغيير التاريخي الذي ينهض بالأمة، ويدفع بها إلى أمام. أما القيادات قصيرة النظر، الباحثة عن مجد آني، أو سلطةٍ لا تلبث أن تزول، فهي التي تشكل الخطوات التي تقوم بها، ليس عبئاً على أتباعها وحسب، وإنما حتى على تطلعاتها وطموحاتها المشروعة. كشفت قياداتنا عن ضيق أفق، وفقدانٍ للقدرة على قراءة الواقع المعقد الماثل، وهذا كله دفع الحراك إلى التراجع والانكفاء... وانكسار الأمل".   

هنا، أدركت أن ما يدور في خلد "الناشط"، وهو نفسه ما أتحسسه، وأيضا هو ما أوقع كثيرين من ناشطي "الحراك الشعبي" في الارتباك والحيرة إزاء هذه العروض المتحدية الصادرة من أكثر من جهة، وقد أوصلتهم مرارة ما يحدث أمام عيونهم إلى الاقتراب من هاوية اليأس والقنوط، وتذكرت سؤال لينين التاريخي، ما العمل؟

أجد أن لا شيء، اليوم، أكثر ضرورة من إطلاق حراك وطني سلمي، يتجاوز الانحياز الطائفي والعرقي، ويكون قادراً على تشكيل رؤية تهدف إلى إقامة دولة مدنية تحترم المواطن، وتضمن له حقوقه، وتقيم العدل عل أساس المساواة التامة أمام القانون، وتعمل على تحقيق تحولات اجتماعية ثقافية، تعين على استرداد الهوية العراقية ذات البعد العربي، وتقلل من مساحة التشوهات التي غرق فيها المجتمع العراقي منذ عقود.

وقفتنا هذه تشبه وقفة بطل رواية "الساعة الخامسة والعشرون"، والذي يواجه مصيره، وهو يبحر في غواصة توشك على الغرق، وليس أمامه سوى أحد خيارين، الصعود إلى سطح الماء ببذل جهد اليائسين، أو إلقاء نفسه في أعماق البحر والموت هناك، حيث لن يستطيع أحد أن يعثر على جثته!

وبعدما انكسر الأمل عندنا لم يعد ثمة من سبيل للإنقاذ سوى الصعود إلى سطح الماء!

583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"