من أجل ملاقاة الاعتراف بدولة فلسطين
تحمل الاعترافات المتتالية من برلمانات أوروبية بدولة فلسطين دلالات مهمة، في هذا الظرف بالذات، والدلالة الأبرز أن ممثلي الرأي العام في أوروبا باتوا يدركون تزايد بؤر التوتر في الجوار الشرق الأوسطي، وأن هذه البؤر تتغذى، في جانب منها، على المظالم التاريخية التي لحقت بالفلسطينيين، وعلى إمعان اليمين الإسرائيلي العنصري في إنكار حقوق الشعب الضحية، وأنه لا يمكن التعامل مع المخاطر الإرهابية المتنامية على مستوى استراتيجي، ما دامت البؤرة الأم مشتعلة ومفتوحة.
لطالما بادرت دول أوروبية، مثل السويد وفرنسا وإيطاليا، إلى الاقتراب من الحقوق الفلسطينية، والتعامل معها بمنظور سياسي يحمل حداً أدنى من الإنصاف، ابتداءً من الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية، منذ أواخر سبعينات القرن الماضي، إلى احتضان مؤتمر مدريد عام 1991، إلى الاعتراف بحق دولة فلسطين في الانضمام إلى الأمم المتحدة عضواً مراقباً، قبل أزْيَد من عامين.
يدرك جمهرة الساسة وصانعي الرأي العام في أوروبا، باستثناء بعض قوى اليمين المحافظ، أن تطرف إسلاميين في الشرق الأوسط يلاقي التطرف الصهيوني، ويتغذّى منه. ويدركون أنه، في الوقت الذي تشتد فيه الحملات على تطرف إسلاميين، فإن ترك الحبل على الغارب للتطرف الصهيوني لن يؤدي سوى إلى مراكمة المشكلات، وشحنها بالتوتر. وفي وقت يتعذّر فيه اتخاذ إجراءات "راديكالية"، مثل المساس بالعلاقات الأوروبية ـ الإسرائيلية، أو اتخاذ إجراءات عقابية ضد الاحتلال الإسرائيلي، فإن الوقوف المعنوي والسياسي مع الجانب الفلسطيني يظل الخيار الأصلح والأكثر واقعية، في وقت يدير فيه الجانب الإسرائيلي الظهر لكل مقتضيات العملية السلمية/ التفاوضية، ويمضي أبعد من ذلك في إضفاء طابعٍ ديني صريح على هوية الدولة الإسرائيلية، ينافي المبدأ الديمقراطي، مع استهدافٍ متمادٍ للمقدسات الإسلامية في القدس، بما يشكل وصفة نموذجية لإعادة تجذير الصراع، وبما يوفر بيئة مواتية لازدهار حركات التطرف في العالم الإسلامي، وفي الشرق الأوسط خصوصاً. وهذه هي الدلالة الثانية لازدهار موسم الاعترافات البرلمانية بدولة فلسطين. وفي ذلك، تتم استجابات أولى وذات أهمية لمقاربات عربية وفلسطينية، تمحورت، منذ نحو نصف قرن، حول طرح المعادلة السياسية الآتية: إن أمن الشرق الأوسط، دولاً وشعوباً، لن يتحقق من دون وضع حل عادل للمحنة الفلسطينية، وكل تجاهل لهذا المنطق سيؤدي إلى بروز وتفاقم مشكلات أمنية واستراتيجية، لا نهاية لها.
ومع اقتناع غالبية دول العالم، بما فيها أميركا جزئياً، بهذا المنطق الذي يزكيه الواقع، إلا أن الاحتلال الإسرائيلي نجح في الإفلات من مقتضيات هذا المنطق، بما في ذلك العمل على تقويض اتفاق أوسلو، المرعي أوروبياً، وتحويله إلى حل أمني، شبه نهائي، يخدم أهداف الاحتلال، وقناعاً يتم التستر به، للتغوّل الاستيطاني والتهويد القسري للقدس، وبناء جدار الضم والتوسّع (يسميه الفلسطينيون خطأً جدار فصل عنصري، وهو ليس جدار فصل، إذ لا يفصل بين الدولة الفلسطينية المزمعة والدولة الإسرائيلية، بل يصادر أرض الدولة الفلسطينية في الضفة الغربية المحتلة).
الآن، ومع ازدهار موجات التطرف مجدداً، ومع المخاوف الأوروبية من تمدد هذه الظاهرة إلى أحشاء المجتمعات الأوروبية، مع وجود ملايين من المسلمين، مواطنين ومقيمين دائمين في هذه المجتمعات، فإن الوعي الأوروبي يستيقظ على مخاطر التطرف الصهيوني، وإنكاره المنهجي والعنصري المديد الحقوق الفلسطينية، وليس هناك أفضل، وفق الحسابات الأوروبية، من اقتران الحملة العسكرية على داعش بحملة سياسية إيجابية، تناصر الفلسطينيين، بما في ذلك حقهم بدولة لهم على أرضهم في الضفة الغربية وقطاع غزة، والاعتراف الرمزي بهذه الدولة، تمهيداً لاعتراف سياسي ودبلوماسي، وهذه هي الدلالة الثالثة لتوقيت حملة الاعترافات البرلمانية.
يتساوق هذا التطور مع الجهد الفلسطيني والعربي، الدائر منذ شهور، لنقل القضية إلى مجلس الأمن، والانتقال من المطالب الجزئية: وقف الاستيطان والتنكيل الجماعي والإفراج عن أسرى، ومن الحديث عن الوسائل: ضمان استمرار العملية التفاوضية في أجواء موضوعة ملائمة إلى طرح مطلب جوهري، يتمثل في إنهاء احتلال الأراضي المحتلة، منذ العام 1976، تمهيداً لقيام دولة مستقلة.
المجموعة العربية ماضية في هذا الطريق بالتنسيق مع الجانب الفلسطيني، ويستعد الأردن لطرح هذا الملف على مجلس الأمن في ديسمبر/ كانون الأول الجاري. فيما توافق حكومات أوروبية، إضافة إلى موسكو وبكين، على مفاوضاتٍ، سقفها الزمني سنتين، تنتهي بالإعلان عن قيام دولة فلسطينية.
ومع إدراك واقع الفيتو الأميركي المسلط، فإن اقتران هذا التحرك البدلوماسي بحملة اعترافات برلمانية في حواضر الغرب، فإن ذلك يضع واشنطن أمام واقع جديد، وهو اصطدامها، هذه المرة، بحلفائها وشركائها الأوروبيين، إضافة إلى تركيا ودول إسلامية، وأخرى في أميركا اللاتينية، وليس بالمجموعة العربية وبكين وموسكو فقط.
الجانب الفلسطيني، بانتقاله المتأخر إلى هذه الدائرة من الجهد الاستراتيجي، مدعوّ إلى رفع وتيرة الصمود السياسي في الداخل، والاستعداد لـ"تضحيات"، من قبيل التهيّؤ لوقف التنسيق الأمني مع سلطات الاحتلال، وبث وعي سياسي ونضالي أرقى، يحدد الحلقة المركزية، والمهام الوطنية العاجلة، بإنهاء الاحتلال الاستيطاني والعسكري، وليس أية مطالب جزئية أخرى، استنزفت الجهد والطاقة، نحو أربعة عقود، ومكّنت الأعداء من طمس القضية الأساس والجوهرية المتمثلة، وهو وجوب إنهاء احتلالهم البغيض أرض الغير، بما في ذلك شعار الدولة الفلسطينية الذي عرف الاحتلال إمكانية الإفادة منه بنشر ادعاءات من قبيل أن الاستيطان لا يتعارض مع هدف قيام تلك الدولة. إن إنهاء الاحتلال وحده ما يضمن الاستقلال، أما الاقتصار على طرح مطلب الدولة، فإنه يفتح الباب، وقد فتح الباب طويلاً، أمام مساوماتٍ لا تنتهي ومفاوضات بلا أفق، وأعان الاحتلال على بسط مشاريعه التوسعية.
في السياق نفسه، فإن السلطة الفلسطينية، ومع مد الجسور نحو غزة، مدعوة إلى التحضير لإطلاق مطلب تاريخي، يرفعه أعضاء المجلس التشريعي والوطني والفصائل والأحزاب والتيارات السياسية، والممثلون المنتخبون للأجسام الاجتماعية، ورموز المجتمع المدني، بالدعوة إلى انسحاب الاحتلال العسكري والاستيطاني من كامل الضفة الغربية وقطاع غزة، أرض الدولة الفلسطينية التي تحظى بالاعتراف الدولي، وذات العضوية في الأمم المتحدة. مع الاستعداد لرفع المطلب، في حال عدم تلبيته، إلى مجلس الأمن والمحاكم الدولية.