بعد أن كان من السباقين لتنظيم أولى معارضها في باريس عام 1994، يحتفي مركز بومبيدو للفن المعاصر ابتداء من 24 حزيران/ يونيو الجاري إلى 28 أيلول/ سبتمبر المقبل بإقامة معرض فردي ضخم للفنانة الفلسطينية منى حاطوم.
ويشتمل المعرض على حوالي مئة عمل مختار من أعمال حاطوم تمتد من عام 1977 حتى مستهل العام الجاري. ويقدمه على شكل خارطة تعكس مسارها الإبداعي بدون تسلسل زمني مقترحاً على الجمهور عبور منجز حاطوم الفني بأشكاله المختلفة والمتنوعة.
هكذا نجد أعمال الفيديو والصور الفوتوغرافية والفن الأدائي التي أنجزتها حاطوم في ثمانينيات القرن الماضي جنباً إلى جنب مع الأعمال الإنشائية المركبة والمنحوتات والرسوم التي ركزت عليها ابتداء من التسعينيات.
وتحاول حاطوم قدر الإمكان التهرب من الحوارات الصحافية وتفضل التحاور مع الفنانين والفنانات لكونها تكره الاسترسال في شرح أعمالها كما أنها تنفر من تركيز السؤال بشكل متكرر حول فلسطينيتها وانتمائها العربي وتتأسف لكون البعض يقارب أعمالها من خلال حصرها في كون صاحبتها فلسطينية، لأن في ذلك اختزالاً لعملها وإهمالاً للأبعاد الفنية والإنسانية التي تطبع منجزها الفني.
غير أن أشد ما يقلق حاطوم هو دأب بعض الإعلاميين والنقاد الفنيين على وصفها بالفنانة اللبنانية كما أسرّت للفنانة جانين أونطوني في حوار نشر في ربيع 1998 بمجلة "بومب" الفنية، حيث تقول:
"رغم أنني ولدت في لبنان فأنا لست لبنانية. عائلتي فلسطينية ومثل غالبية الفلسطينيين الذين هُجروا إلى لبنان بعد حرب 1948 لم يكن بمقدورنا أبداً الحصول على وثائق هوية لبنانية. عشت في بيروت بوثائق بريطانية حتى عام 1975 عندما قصدت بريطانيا في رحلة قصيرة تحولت إلى إقامة دائمة بسبب اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية. هكذا عاشت عائلتي شروخاً متكررة في مسارها. وهذه الشروخ والاقتلاع القسري من الجذور حاضر بكثافة في أعمالي الفنية".
"مشهد داخلي" (2008) |
ورغم أن حاطوم تتذمر أحياناً من التركيز عليها كفلسطينية وتخاف من أن يؤثر هذا على اختزال منجزها الفني فإنها في الواقع، وربما بالرغم منها، سفيرة فوق العادة للمأساة الفلسطينية في ساحة الفن الحديث وبفضلها دخلت فلسطين وخرائطها المنهوبة والمشوهة إلى أهم المتاحف العالمية والمعارض الدولية الشهيرة، ذلك أن منى حاطوم تحولت بفضل منجزها الفني المتميز إلى واحدة من أهم وأشهر الفنانات العالميات وبرزت كفنانة تمتلك خلفية نظرية وفكرية صلبة وفي غاية التنوع قلما تتوافر في ساحة الفن المعاصر.
كما أن حاطوم رغم حذرها الشديد من الوقوع في خطاب سياسي مباشر تُعتبر في نظر العديد من النقاد فنانة سياسية بالمعنى النبيل والعميق للكلمة ومنجزها الفني بأشكاله المختلفة مخترق بمواضيع الانتماء والاقتلاع والتهجير والنفي والشتات ومقاومة شتى أنواع السلطة وبالجسد المعرض للخطر والاغتصاب. كما أن حاطوم اهتمت كثيراً بمقاربة أنظمة المراقبة المجتمعية في الغرب خاصة في فترة الثمانينيات عبر فن الفيديو.
ومثل كبار الفنانين العالميين، حاطوم نجحت في التقاط همومها الشخصية وكوابيسها الحميمة وصياغتها كقصص محلية بشكل فني محكم يجعلها في متناول الجمهور العالمي. وهذا ما سجله المفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد الذي تابع تجربتها الفنية بشغف واهتمام: "لا أحد تطرق للتجربة الفلسطينية بطريقة تجمع بين القسوة والهزل كما فعلت هي".
ولعل عملها الإنشائي "مشهد داخلي" (2008) خير دليل على هذه الخاصية في إبداعات حاطوم. فالعمل عبارة عن قاعدة سرير حديدية خالية من فرشته. ويبدو بأسلاكه الشائكة كسرير زنزانة. وعلى السرير مخدة خاطت عليها حاطوم خريطة فلسطين التاريخية قبل الاحتلال. ونثرت عليها حفنة من شعر رأسها، وغير بعيد عن السرير تدلت فوق علاّقة الملابس خريطة أخرى مقطعة لفلسطين مصنوعة من الأسلاك. وجنب السرير منضدة برجل مكسورة فوقها صفيحة رُسمت عليها خريطة أخرى مبهمة.
"أعمال الطريق"، 1988 |
هكذا تحول فضاء غرفة النوم الذي عادة ما يوحي بالألفة والسكينة والطمأنينة إلى فضاء عدواني ومنفّر، مليء بالتوتر والخرائط المبتورة ولا شيء من أثاثه يصلح بتاتاً للاستخدام.
وتضع حاطوم الجمهور وتفاعله في قلب عملها الفني وتعتمد كثيراً على خبرة المشاهد الحسية والنظرية معتمدة على استراتيجيات فنية متنوعة رغم أن العديد من النقاد الغربيين يصرون على وضع أعمالها في خانة الفن الاختزالي والتصوري. وتقول حاطوم في هذا الصدد:
"أحب أن أدفع الناس في اتجاه تفاعل بصري وجسدي، التأويلات والعلاقات تندلع من الاحتكاك الأول المباشر مع العمل الفني. ففي ممارستي للفن الأدائي كان لدي احتكاك مباشر بالجمهور، لكن عندما بدأت أشتغل على الأعمال الإنشائية المركبة رغبت في أن يحل جسد المشاهد محل جسدي".
ويرى الناقد الفرنسي نيكولا بوريو في تصريح لـ"العربي الجديد" أن حاطوم "استطاعت أن تكرس نفسها كواحدة من أبرز الفنانات العالميات بفضل ارتكازها على نظرة علائقية للعمل الفني تقوم على التفاعل الحميم بين الفنان والمشاهد يبني عبر التواطؤ الحسي نوعا من المقاومة لأشكال التعليب الاجتماعي".
وعن استعمال السخرية والبعد السوريالي في أعمالها، وضّحت حاطوم في معرض حوار ثمين مع المشرفة على المعرض الناقدة الفنية كريستين آسيش بأنها دأبت دوما على اللجوء إلى السخرية في أعمالها بهدف التخفيف من حدة بعض المواضيع المؤلمة و"الثقيلة":
"مثلا في "أعمال الطريق" وهو قطعة أدائية أنجزتُها عام 1985 تمشيت خلالها في شوارع حي بريكستون اللندني بقدمين حافيتين وأنا أجر ورائي جزمتين عسكريتين ثقيلتين. أيضاً في عمل "على جثتي" (1988) حين اختزلت الذكورية في دمية تجسد جندياً صغيراً (في هذا العمل تظهر صورة فوتوغرافية جانبية كبيرة لوجه الفنانة وعلى أنفها دمية صغيرة لجندي). أهتم كثيراً بالسوريالية لأنها في نظري تتيح تصوير التناقضات والتعقيدات التي تسكننا وهي تساعد على الإبداع انطلاقاً من الحقائق الحميمية وليس اعتماداً على المنطق العقلي. أنا أحب كثيراً فكرة الشيء العادي والأليف الذي يتحول فجأة إلى شيء مقلق ومهدِّد لأنه مرتبط بذكرى مؤلمة في اللاشعور".
حين نتأمل في هذا الإفصاح من قبل الفنانة، نستطيع أن نفهم سبب نفورها من الحديث عن أعمالها، فعلى سبيل المثال إن كانت بالفعل تتحدث عن الذكورية في عملها "على جثتي"؛ فإن هذا لم يمنع طيفاً واسعاً من المتلقين من اعتباره عملاً عن مواجهة الإنسان الفلسطيني للاحتلال العسكري الإسرائيلي أو عن مواجهة الفاشية العسكرية في غير مكان من العالم.