منظمة التحرير وسؤال الشرعية

25 يونيو 2020
كسبت المنظمة شعبيتها من خلال الكفاح المسلح(موسى الشاعر/فرانس برس)
+ الخط -
تأسست منظمة التحرير الفلسطينية بقرار من جامعة الدول العربية عام 1964، جاء بمبادرة مصرية ليتوج جهداً استمر سنوات لإنشاء كيان سياسي يمثل الشعب الفلسطيني الذي ظلّ قراره منذ ما قبل النكبة بيد الدول العربية. وبحسب ما ورد في قرار جامعة الدول العربية رقم 1933، كان الهدف من إنشاء المنظمة أن "يتولى أهل فلسطين أمر قضيتهم"، على اعتبار "أن الشعب الفلسطيني هو صاحب الحق الشرعي في فلسطين، وأن من حقه أن يسترد وطنه ويقرر مصيره، ويمارس حقوقه الوطنية الكاملة".

وكان مشروع إنشاء كيان يمثل الفلسطينيين قد أخذ يتبلور قبل القرار بخمس سنوات، حين تقدم العراق في عهد رئيس الوزراء عبد الكريم قاسم بمذكرة بهذا الخصوص، واستند إليها قرار الجامعة، كما تقدمت مصر بمذكرة أخرى إلى مجلس الجامعة في آذار/ مارس 1959 من أجل العمل على إبراز الكيان الفلسطيني. وبحث مجلس الجامعة بناء عليها موضوع "إعادة تنظيم الشعب الفلسطيني وإبراز كيانه شعباً موحداً لا مجرد لاجئين بواسطة ممثلين يختارهم". وكانت غاية الجهود المصرية المعلنة "مواجهة نشاط إسرائيل لتصفية القضية الفلسطينية وإضاعة حقوق شعب فلسطين".

ممثل شرعي وآلية ضبط
في تلك الفترة كان النظام الرسمي العربي منقسماً على نفسه، بين نظم جمهورية "ثورية" معها حركات التحرر الوطني العربي، بقيادة مصر الناصرية، والنظم التقليدية التي تأسست في ظل الاستعمار القديم واستمرت بعده، بقيادة المملكة السعودية. هذا الانقسام إلى جانب أسباب أخرى، عطل إنشاء كيان تمثيلي للشعب الفلسطيني بعد النكبة، لكن مع تصاعد النشاط السياسي بين اللاجئين الفلسطينيين في منتصف الخمسينيات، وتبلور مبادرات تنظيمية في الشتات والداخل الفلسطيني، استشعرت أطراف النظام الرسمي العربي على اختلاف تموضعها ضرورة إنشاء كيان تمثيلي فلسطيني برعايتها وتحت مظلتها، يقطع الطريق على تطور النشاط السياسي والمبادرات التنظيمية بين اللاجئين في اتجاه غير مسيطر عليه ولا ينضبط لقواعد العمل السياسي التي فرضتها التوازنات الداخلية العربية ومن خلفها منظومة المصالح الدولية في المنطقة.

فجاء إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية تعبيراً عن تسوية مصرية سعودية لتحقيق المصلحة المشتركة في انضباط المرجعية الفلسطينية للآليات العربية، وفي الوقت عينه تكون هذه المرجعية نفسها واحدة من تلك الآليات، بحيث يصبح تدخل أي نظام عربي أو حتى أي جهة في العالم بالقضية الفلسطينية من خلال المنظمة، أي أنها آلية ضبط ثنائية الاتجاه؛ تضبط نضال الفلسطينيين وفعلهم السياسي، كما تضبط علاقة الآخرين بالقضية الفلسطينية. وتجلت التسوية بتعيين أحمد الشقيري، المقرب من مصر والصديق للسعودية، ممثلاً لفلسطين في جامعة الدول العربية، ومن ثم رئيساً لمنظمة التحرير.

من الشرعية الرسمية إلى الشرعية الشعبية
كانت شرعية المنظمة لحظة التأسيس تستند بشكل رئيسي إلى الاعتراف الرسمي العربي، ولم تحظ بشرعية شعبية فلسطينية حقيقية، وخاصة أن المنظمة لم تمارس أي دور سلطوي على الأرض على أي مستوى، لا داخل فلسطين المحتلة، حيث كانت الضفة خاضعة لسلطة الأردن، وغزة لسلطة مصر، ولا في الشتات. في وقت لاحق وبعد هزيمة 1967 أخذت التنظيمات الفدائية الفلسطينية بالصعود بشكل متسارع، مستفيدة من السخط الشعبي الفلسطيني والعربي على الهزيمة، وتهاوي الآمال المعقودة على النظام الرسمي العربي لتحرير فلسطين، وكانت المنظمة وقيادتها محسوبة على النظام الرسمي، فتآكلت شرعيتها المنقوصة أصلاً بشكل كبير، وكان لا بد من استيعاب الصاعدين الجدد في المنظمة لتكتمل شرعيتها، ولتؤدي الدور الانضباطي الذي أسست من أجله. بذلك يمكن القول إن الوطنية الفلسطينية المعاصرة، بالمعنى السياسي المؤسسي، صعدت على أكتاف هزيمة 1967.

الكيانية الفلسطينية مشروع فلسطيني
سيطرت المنظمات الفلسطينية الفدائية، وبشكل رئيسي "فتح"، على منظمة التحرير بشكل كامل في المؤتمر الوطني الخامس، عام 1969، الذي انتخب ياسر عرفات رئيساً للجنة التنفيذية. عرفات تمتع كما الشقيري بعلاقات جيدة مع طرفي الانقسام العربي، مصر والسعودية.

كانت معظم المنظمات الفلسطينية منذ انطلاقتها، تتبنى مشروع دولة فلسطين الديمقراطية على كامل فلسطين التاريخية، وفي مقدمتها حركة فتح والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وانتقل المشروع معها إلى منظمة التحرير، لكن سرعان ما أفل لمصلحة مشروع الدولة الفلسطينية على جزء من فلسطين، بتدرجاته، بدءاً من سلطة فلسطينية على أي جزء يتم تحريره من فلسطين في البرنامج المرحلي عام 1974، وصولاً إلى دولة على حدود 1967 في المؤتمر الوطني عام 1988. وربما مهد برنامج 1974 لاعتراف الجمعية العامة للأمم المحتدة بالمنظمة كممثل شرعي للشعب الفلسطيني في العام نفسه، لكن من الواضح أن الشرعية الدولية للمنظمة ارتبطت طردياً بتجذر تبنيها لمشروع الكيان الفلسطيني على جزء من الأرض.

صعود حماس... تنازع الشرعية
شكلت انتفاضة 1987 دفعة قوية لشرعية تمثيل منظمة التحرير، خاصة بعد انتكاسة اجتياح 1982 للبنان، وما تبعها من تراجع حضور المنظمة وخفوت وهجها السياسي الذي كان قد بلغ ذروته في "جمهورية الفاكهاني" في بيروت. لكن ما تبدى أنه فرصة ذهبية للعودة إلى الواجهة سرعان ما تحول إلى تهديد مع صعود تيار الإسلام السياسي الفلسطيني، خاصة حركة حماس، التي لم تعترف بشرعية منظمة التحرير ولا قيادتها للشعب الفلسطيني، وكانت تقدم نفسها عملياً بديلاً لها. جاء تنازع الشرعية هذا في وقت بات مركز الثقل الفلسطيني يميل إلى داخل الأرض المحتلة، وربما شكل عامل ضغط إضافياً سرّع في ذهاب قيادة منظمة التحرير إلى التسوية السياسية.

أوسلو... مشروع الكيانية يبتلع المنظمة
بعد توقيع اتفاقيات أوسلو عام 1993 وإقامة سلطة الحكم الذاتي في غزة-أريحا في العام التالي، بدأت تصعد الشرعية التمثيلية للسلطة الفلسطينية على حساب شرعية منظمة التحرير. رغم أن المنظمة ظلت تمثل الفلسطينيين في مفاوضات عملية التسوية، إلا أن مؤسسات السلطة على الأرض أزاحت مؤسسات المنظمة المناظرة. فوزارة خارجية السلطة احتكرت التمثيل الدبلوماسي الفلسطيني وباتت تتبعها مكاتب التمثيل الفلسطينية التي تحولت إلى سفارات للسلطة، وذلك على حساب الدائرة السياسية لمنظمة التحرير، التي تحولت إلى ما يشبه مكتباً صحافياً لرئيسها فاروق القدومي، ووزارة مالية السلطة باتت تغطي نفقات منظمة التحرير بتحويلات مالية للصندوق القومي الفلسطيني بلغت خلال السنوات الخمس الماضية حوالي 900 مليون دولار، حسب بيانات الوزارة، والمجلس التشريعي الفلسطيني - حتى سيطرة حماس على غزة - طغى على المجلس الوطني الذي لم يدعَ إلى الانعقاد إلا ثلاث مرات طوال 26 عاماً هي عمر السلطة، أولى تلك المرات كانت لإلغاء ميثاقه بطلب أميركي، بينما انعقد عشرين مرة خلال الثلاثين عاماً التي سبقتها.

السلطة الفلسطينية من المفترض أن تتبع لمنظمة التحرير بحكم المنطق والقانون، لكن الواقع كان عكس ذلك، وباتت المنظمة كياناً هامشياً شكلياً، امتصت السلطة جزءاً من شرعيته وتبدّد الباقي.

ديكتاتورية الواقع أجهزت على المنظمة
كيف انكمشت شرعية الكيان التمثيلي الفلسطيني من مقاس منظمة التحرير الواسع إلى مقاس السلطة الضيق؟ هل كان ذلك بإرادة سياسية من الأطراف الفاعلة الدولية والعربية وحتى الفلسطينية؟ أم أنه نتاج السياق التاريخي الذي سارت فيه القضية الفلسطينية؟ من الواضح أنه كان مزيجاً من العاملين الإرادوي والموضوعي؛ الموضوعي يحدث تأثيراً حاكماً تنتج عنه أفعال وسياسات إرادوية تساهم بدورها في نشوء ظرف موضوعي جديد وهكذا دواليك، لكن هذا السياق ما كان له أن ينطلق بالأساس لو لم تطغَ النزعة الكيانية على القيادة الفلسطينية على حساب برنامج التحرير. فكما أثبتت التجربة، حين يتجسد الكيان على جزء من الأرض يصبح رهينة للظروف الموضوعية المحيطة، ولا يمكن أن يكون منطلقاً للتحرير كما جاء في برنامج النقاط العشر، إلا إذا كان المحيط العربي داعماً ويشكل بحق عمقاً استراتيجياً، ومن الواضح أن هذا الشرط غير متوفر اليوم ولم يكن متوفراً عام 1974 حين وضع البرنامج.

الإدارة الأميركية... نحو طي صفحة منظمة التحرير
القضية الفلسطينية دون قضية اللاجئين تصبح مشروع دولة على حدود 1967، منظمة التحرير هي القضية مع اللاجئين، والسلطة هي دونهم، هذه هي المعادلة ببساطة. موقف الإدارة الأميركية من قضية اللاجئين معروف، ولا داعي للإسهاب في شرحه، وهي بذلك موضوعياً ستسعى لتأكيد شرعية السلطة وإنهاء شرعية المنظمة. هذا الأمر ليس في إطار التحليل فقط، بل أصبح موثّقاً أيضاً في خطة ترامب سيئة الذكر والمعروفة بصفقة القرن. جاءت الخطة بـ181 صفحة لم يرد فيها اسم منظمة التحرير ولو مرة واحدة، حتى حين تحدثت عن الخلفية التاريخية واتفاق أوسلو الذي وقعته منظمة التحرير، واستعيض عنها بـ"السلطة الفلسطينية"، التي يبدو أن الإدارة الأميركية عينتها ممثلاً للشعب الفلسطيني. وهو بالمناسبة ليس أمراً جديداً، فقد سبق أن منحت المندوبة الأميركية في مجلس الأمن نيكي هالي السلطة الفلسطينية هذه الصفة ضمنياً في خطابها إثر الفيتو الأميركي على تعيين سلام فياض ممثلاً أممياً في ليبيا، في شباط/ فبراير 2017. الملفت أن هذا السلوك لم يقابل بأي احتجاج أو رفض أو حتى تعليق من أي طرف دولي ولا من القيادة الفلسطينية نفسها.

بؤس الواقع
بلا مقدمات، المشهد السياسي الفلسطيني اليوم كالتالي: في الضفة سلطة فلسطينية مرتبطة بدور وظيفي خادم للاحتلال وهيمنته، هَمّشت منظمة التحرير وابتلعت حركة فتح. في غزة سلطة حماس التي بات لها هي كذلك دور وظيفي خادم للاحتلال، رغم كل التقدير للمقاومة المسلحة، لكن ما الفائدة إذا كان ثمنها تشظّي النظام السياسي الفلسطيني، وإزاحة مشكلة غزة وسكانها عن كاهل الاحتلال بالمعنى الديموغرافي والجغرافي دون أي مردود سياسي بالضبط كحال السلطة؟ المقاومة المسلحة يمكن أن تشكل صداعاً للاحتلال لكنها بالتأكيد في ظل إمكاناتها المعروفة ليست تحدياً وجودياً كالوحدة الفلسطينية، والحديث عن الوحدة هنا لا يعني التوحد على مشروع سياسي بل ضمن إطار سياسي، وهو أمر حيوي لشعب يفتقد الوحدة الديموغرافية والجغرافية. أما اليسار الفلسطيني فتم تدجينه للأسف، خاصة عندما دخل في طوره الممانع، واستسلم أكثر من أي وقت مضى للشعاراتية التي كانت سابقاً علّة في خطابه وأصبحت اليوم كل الخطاب. وعلى صعيد البنية الاجتماعية، بتنا اليوم أمام مجتمعات فلسطينية، كان لها في السابق جسم سياسي يوحدها ويعبر عنها هو منظمة التحرير، اليوم أصبح كل منها لوحده أكثر من أي وقت مضى.

إعادة الاعتبار لقضية لا مؤسسة
إن إحياء منظمة التحرير الفلسطينية وإعادة الاعتبار لها، ليسا مجرد عملية إدارية أو هيكلية، بل عملية نضالية سياسية بكل ما للكلمة من معنى. ففي ظل التمسك بحل الدولتين الذي بات من الواضح اليوم أنه غير واقعي، خاصة بعد خطة ترامب ومشروع الضم الإسرائيلي، لا أفق إلا لسلطة حكم ذاتي فلسطيني تؤدي دوراً وظيفياً اعترف به رئيس السلطة في واحد من خطاباته الأخيرة.

إن إعادة الاعتبار لمنظمة التحرير تعني إعادة الاعتبار لبرنامج التحرير، وذلك يبدأ سياسياً بإحياء مشروع الدولة الفلسطينية الديمقراطية الواحدة، الذي رفعته الثورة الفلسطينية المعاصرة قبل انحراف البرنامج المرحلي. لطالما طالبت القيادة الفلسطينية وكذلك المعارضة بمؤتمر دولي لبحث القضية الفلسطينية، ربما نحن اليوم بحاجة قبل المؤتمر الدولي، إلى مؤتمر فلسطيني استثنائي يقوم بعملية مراجعة شاملة للمسار والمشروع السياسيين، مراجعة لا بد منها لإحياء منظمة التحرير، وإحياء القضية الفلسطينية.
المساهمون