19 نوفمبر 2023
مناقب مدير عام
العودة إلى أيّام الزمن الجميل وما تركه من ذكريات مثيرة للجدل، ظلّ أغلبها راسخاً في الذاكرة، وإلى اليوم، لا يمكن بحال نسيانها أو تناسيها، خاصةً أنها تمثّل جسداً مهمّاً من خيرة من عَاشرت، وملازماً لشخصه، وهو الإنسان الوديع، الذي عرف بخصاله الحميدة وبأخلاقه النبيلة، وذو الشخصية القوية الذي أحبّه الجميع وتقرّبوا وأخلصوا له، وكان يُعدّ بالنسبة لنا نحن العاملين في الشركة، التي كنا نقضي فيها ساعات عمل طويلة مملة ومقرفة، الذي كان يشغل فيها صفة المدير العام، خير مثال في الود والاحترام، وقلّ ما يمكن أن تقارنه بغيره من المهندسين العاملين في الشركة أو في غيرها.
كان المهندس صالح محمّد علي أنيقاً في هندامه وفي شخصه، وهو المتابع النشط في عمله الذي شغله لفترة مُبعدة من الزمن كمدير عام لشركة سكر الرَّقة، وكنتُ في حينها مكلّفاً بإدارة مكتبه الخاص.. وهو بقدر ما فيه من خصال وصفات حميدة وطيّبة وخلق حسن، وأنس ودَعّة والكثير من المرح، إلاّ أنّه يؤخذ عليه، وللأسف، أنه سريع الانفعال والغضب!
كان الأستاذ صالح محمّد علي لا يتقبّل أيّ نقاش، إلاّ في حدود ضيّقة جداً، وهو شخص جاد في عمله وإلى حد كبير، ومتابع ومتفهّم له، لا سيما أنّه قبل أن يُعيّن مديراً عاماً للشركة، كان يشغل مديراً فنيّاً لها ولفترة طويلة، وهذا ما يعني أنه على اطلاع ومعرفة تامّة بكل خفايا الشركة، فتراه يتابع بريدها الوارد والصادر، وبحذر شديد، ويحرّر القرارات ويصدّرها ويشرف على تنفيذها بنفسه، فضلاً عن دراسة التعليمات التي يصدّرها بدقّة متناهية ويرسلها للجهات الإدارية قبل استصدارها بصورتها النهائية، ويكتب كل شيء صادراً عنه بيده، وبخطه الجميل.
وفي إحدى المرات، كان فد أشار عليّ بعدم دخول أيّ من العاملين إلى مكتبه، حتى وإن كان معاونه، إلاّ بعد أخذ الإذن بالدخول منه شخصياً، وكان يمانع في ذلك ويتشدّد رغم أنّه إنسان متفهّم ومثقف، وله شخصيته المتفرّدة في العمل، ويتابع، كما ذكرت كل صغيرة وكبيرة، ويحضر الاجتماعات الدورية بخصوص لجان تسويق الشوندر، قبل وأثناء المباشرة في دورة التشغيل السنوية، وزياراته المتكرّرة إلى المؤسسة العامّة للسكر، في مقرّها الرئيسي في مدينة حمص، والتحضير لاجتماعات وزير الصناعة السنوية الذي طالما يقوم بزيارة معامل السكر في فترة التشغيل، بصورة دائمة، وتراه طوال اليوم مرتدياً الزيّ الخاص بالعمل، ومتابعاً لمراحله في كل مواقع الشركة، وبدون تذمّر.
وفي كثير من المراحل فإنّي وجدت في صورة المهندس صالح محمّد علي، وهو المنحدر من سلالة طيبة، والى حد كبير كان ملتزماً ومتشبّثاً بأصول دينه ومحافظاً عليه، وجدتُ فيه الشخصية المتزنة، والتواضع الجمّ، والأب الروحي لجميع العاملين في الشركة التي كان يقود سفينتها بحكمة لم أقرأ أو أسمع عنها.
وللأمانة، فانّ المدير العام لشركة سكر الرّقة كان عصامياً ومتابعاً جاداً لعمله إلى حد الهوس!.. وكانت فترة التشغيل التي عادةً ما تبدأ مع أوّل شهر يونيو/حزيران، وتنتهي مع نهاية شهر أغسطس/آب، قد تطول حسب كميات الشوندر السكري الوارد إليها والذي يُقدم الفلاحون على زراعة مساحات كبيرة منه، وغالباً ما يكون خارجاً عن الخطة الزراعية المقررة في عروتيه الخريفية والربيعية، والأرقام الواردة من اتحاد فلاحي المحافظة بالكاد تكون صحيحة، ما يعني استمرار فترة التشغيل لأكثر من شهر على الأغلب، وكان يعجز المعمل عن استيعاب الكميات الواردة إليه، وأغلبها لا تخص مدينة الرّقة التي تقوم بزراعته فحسب، وإنما تشتمل على بقية المحافظات السورية التي اهتمت بزراعته، وبكميات كبيرة، فضلاً عن أن الحكومة زادت من قيمة سعر الطن الواحد من المحصول لتشجيع الفلاحين الإقبال على زراعته لأجل تشغيل وتغطية حاجة معامل السكر في المحافظات من الشوندر في المواسم المقبلة، وبما يناسب الفلاحين والمستثمرين له، أضف إلى المحافظات التي تهتم هي الأخرى بالإقبال على زراعته، ومنها حماه وحمص وحلب ودير الزور بحكم تواجد المعامل في أغلبها، وتكون غير قادرة على استيعاب الكميات المزروعة، والفائض لديها يرسل إلى معمل سكر الرّقة ومسكنة ودير الزور، وهذا يتطلّب زيادة ساعات تشغيل إضافية، وما يصرف على هذه المعامل قياساً بالمردود فانّه يكاد لا يذكر، ما يعني زيادة في التكاليف التي تحاول المؤسسة العامّة للسكر خفضها من خلال تعاميمها الصادرة والموزعة على إدارة شؤون العاملين في المعامل التي تتبع لها.
وإذا ما عدنا للحديث عن أزمة التشغيل، والمشاكل الكثيرة التي تحدث نتيجة ورود كميات كبيرة من الشوندر السكري، التي يقوم الفلاحون بزراعتها خارج عمّا هو مقرّر، فهذا ما كان يثير حنق لجان التسويق عن المحصول أثناء فترة التشغيل في معامل السكر الموزعة في القطر في فترة الصيف والتي تتجاوز حوالي أربعة أشهر، وخلال الأربع والعشرين ساعة عمل يومية ومتواصلة.
طبيعي أنّه خلال هذه الفترة غير العادية للتشغيل والتي تكون محطّ اهتمام واستنفار جميع العاملين في المعمل، وعلى رأسهم المدير العام، رأس هرم الشركة.. وهذا الاستعداد يبدأ مع انتهاء موسم التشغيل الدوري في كل عام، والاستعداد لأعمال الصيانة في أقسام الشركة جميعها، وهذا ما يتطلب من المدير العام وفريقه الفنّي متابعة كل صغيرة وكبيرة في المعمل لأجل تلافيها في فترة التشغيل في الموسم المقبل، وهذا العمل يتطلّب جهوداً مضنية، ومتابعة غير محدودة من قبل العاملين أيضاً، ناهيك بالإعلان عن المناقصات التي تعلن عنها إدارة الشركة، ويتقدم إليها عدد من متعهدي القطاع العام والخاص، وأكثر ما كانت ترسي على أشخاص بعينهم، ويجري التنفيذ بالتعاون مع عمال الشركة أنفسم لقاء أجور مادية يتفق معهم بشأنها، وبعد الانتهاء من فترة الصيانة المرسومة، والبدء للاستعداد لموسم تشغيل جديد يتم الاستعانة بأعداد كبيرة من العمّال الموسميين لتعويض النقص الحاصل في الكثير من أماكن الإنتاج في الشركة.
إنَّ بدء موسم التشغيل بالنسبة لمعمل السكر، والساعات الطويلة التي يقضيها العاملون في أماكن عملهم، وفي فترة الصيف، وهذا ما كان يدفع بعدد كبير منهم إلى ترك مواقع عملهم والهرب خارج أسوار الشركة، ومن ثم العودة إليها مع ساعات الصباح الأولى، وهذا ينطبق على بعض الأقسام الإدارية، وحدهم الذين يعملون في ورديّة نهارية فقط، وقضائهم ساعات ما بعد الظهر في قيلولة بعد استراحة محارب!
المدير العام للشركة، وعلى الرغم من تمتعه بشخصية قويّة وحسمه للكثير من أمثال هذه القضايا بحزم وبشدّة، وعدم التهاون بها، تحت أيّ ظرف كان، أو تعاطفه مع أحد على حساب العمل، كان يعامل أغلب العاملين بقسوة لصالح العمل، لأن برنامج العمل يتطلب منه ذلك، وإلاّ فسح المجال للأغلبية على مصراعيه بعدم الاهتمام وخلق نوع من الفوضى والاسترخاء، وكان يواجه كل ذلك بتهديدهم إلى الجهات الأمنية تارةً، والى الاقتصاص منهم بفرض عقوبات إدارية فورية وحسم من الراتب، وهذه الصرامة التي يتبعها في معالجة كل ما يعرقل العمل أو يؤثر على أقسام الشركة وتراخي العمّال في بعضها، وهذا ما حدَّ، وبصورةٍ كبيرة، من استشراء الفوضى ولجم أغلبها، وإن كان على المدى البعيد.. ورغم التشدّد والحزم في اتخاذ القرار الذي كان يتبعه، إلاّ أن بعض المساحات ظلّت بحاجة إلى متابعة أكثر، وحسم في اتخاذ القرار المناسب ومعالجة ما أمكن منها.
المكان الذي تقوم فيه الشركة في الرّقة يبعد عن مركز المدينة حوالي ستة كيلومترات، والمدير العام في بعض ما يُطلب منه حضور اجتماعات دورية أثناء فترة التشغيل مع جهات تسويق المحصول في المحافظة، وقد تطول فترة الاجتماعات ساعات، وتتكرر بصورة يومية، وهي عادة ما تسبق فترة التشغيل وأثناءها، وهذا ما يعني لجوء بعض العاملين للهرب خارج أماكن عملهم، وغالباً ما كان يَلمحُ المدير العام هؤلاء العاملين، صدفةً، أثناء عودته بسيارته إلى الشركة في الطريق الرئيسي الذي يربط المعمل بالمدينة، وكان يفرض بحقهم العقوبات الادارية المتاحة، أضف إلى أنه كان يلجأ إلى حسم ما نسبته من كتلة الحوافز الإنتاجية التي تُمنح للعاملين مع انتهاء فترة التشغيل، وهذا ما كان يخلق الكثير من الحساسية، وما ينعكس بصورة سلبية على العاملين الذين كان يتصيّدهم خارج الشركة. الحوافز الإنتاجية التي أنعشت حال مستوى الكثير من العاملين في الشركة، ودفعت بالعاملين في مواقع أخرى بالانتقال إليها بدون جدوى للاستفادة من هذه الميزة التي أنعشت الكثيرين من العاملين فيها، وكانت تصل مجمل المكافآت الممنوحة لبعضهم إلى أكثر من ألفي دولار للعاملين في أماكن حسّاسة، وهذا المبلغ كبير جداً، ما يعادل عشرة أضعاف دخل العامل الشهري، وكان هذا هو الحل الأسلم الذي كان يلجأ إليه المدير العام للجم العاملين الهاربين من العمل وغير الملتزمين في مواقع عملهم!
كان عمل المدير العام شاقاً ومجهداً، يكفي ما يصله يومياً من البريد الوارد والصادر الذي يحتاج إلى تأشيرة منه، وغير ذلك من متابعات شخصية يقوم بها بنفسه والتأكيد عليها، فضلاً عن أنه يقوم غالباً في إعداد الكتب والمراسلات إلى المدير العام للمؤسسة العامّة للسكر ووزارة الصناعة بنفسه، وهذا ما كان يعني بالنسبة له بذل جهد مضاعف يُحمّله طاقة لا حدود لها، ناهيك عن استصدار التعليمات والقرارات، وتحويل البريد إلى الجهات الإدارية والفنية في الشركة، وحضوره الاجتماعات الدورية التي تُعنى بكيفية استقبال كميات الشوندر اليومية، وخاصة في حال حصول عطل فنّي ما في أحواض أو غسالة الشوندر، أو في قسم العينات، وفي فرن الكلس، وهو القسم الرئيسي في المعمل، وأيّ عطل فنّي صغير هذا يعني توقف العمل في المعمل كلياً، وامتلاء ساحته الخارجية بالجرارات والسيارات الشاحنة المقطورة التي تقوم بنقل الشوندر سواء من داخل المحافظة أو من خارجها!
ويحضرني في هذه المتابعة، أنَّ المدير العام كان يبادر بشراء كميات محدودة من السكر الأبيض لزوم مكتبه من جيبه الخاص، ومن أجل استعماله شخصياً، ولأجل ضيوفه ولم يقدم على استعمال ما تنتجه الشركة من سكر الشوندر. هذه كانت قناعته التي جُبل واستمر عليها، ولم يُحاول يوماً، لمجرد المحاولة، أن يستفيد من المكان الذي كان يشغل فيه منصباً متفرّداً، على الرغم من أنه كان قادراً على ملء جيوبه بمبالغ مالية هائلة على ضوء الصرفيات الكبيرة التي كان يقوم بالتوقيع عليها، والتي كان يستفيد منها آخرون في ظل وجوده، ولم يكن يرغب هو شخصياً، في اتباع هذا السلوك الذي كان يرفضه بتاتاً، ولو أراد الانغماس فيه لحقق ريوعاً مادية كبيرة جداً.
في الواقع كان المهندس صالح محمد علي المدير العام لشركة سكر الرّقة مثالا في النزاهة والتفاني في عمله والإخلاص له، والأمين على سير خط الشركة بما يرضي ضميره، فضلاً عن الطباع التي كان يتحلى بها والتي كانت من الندرة أن تجد أحد غيره يتصف بها، فكان حريصاً على مسيرة الشركة ونجاحها، على حساب راحته التي كانت تشغل فكره طوال فترة التشغيل وما قبلها وبعدها، وهو الذي كان يضطر إلى إرضاء زيد وعمر سواء لجهة قيادات الفروع الأمنية وعناصرهم في المحافظة، أو المحافظ وأعضاء قيادة فرع الحزب، واتحاد الفلاحين ومديرية الزراعة وأعضاء لجان تسويق الشوندر، والمدير العام للمؤسسة العامة للسكر، وحتى الوزير المختص شخصياً، وكان في أكثر من مرّة يدفعه واقع العمل الحالي إلى تقديم استقالته التي طالما تُجابه بالرفض نتيجة التدخلات من قبل المسؤولين في عمله، إلاّ أنَّ طلب استقالته كان يلقى الرفض من قبل جهات وصائية عليا، وظل رغم ذلك مستمراً في عمله الذي أخلص له لفترة أطول إلى أن قرر أخيراً ترك موقعه الذي كان يدر على غيره ملايين الليرات السورية، ما يعني أن أخلاقه وطباعه الحسنة، وصدقه مع نفسه ومع الآخرين دفعت به إلى الامتثال للأمر الواقع وترك العمل الذي قضى فيه سنوات، حفاظاً على مكانته والحال الذي كان يعيشه وأسرته، والتزامه الأدب تجاه أصدقائه ومعارفه، كل ذلك دفع به للحيلولة دون إكمال مسيرة عمله في المكان الذي نجح وتميّز فيه، وكان بحق المدير العام الذي يستحقها من صفة ظلّت تلازمه إلى ما بعد تركه العمل، فظلّ وعن جدارة، من المدراء القدوة والندرة.
كان المهندس صالح محمّد علي أنيقاً في هندامه وفي شخصه، وهو المتابع النشط في عمله الذي شغله لفترة مُبعدة من الزمن كمدير عام لشركة سكر الرَّقة، وكنتُ في حينها مكلّفاً بإدارة مكتبه الخاص.. وهو بقدر ما فيه من خصال وصفات حميدة وطيّبة وخلق حسن، وأنس ودَعّة والكثير من المرح، إلاّ أنّه يؤخذ عليه، وللأسف، أنه سريع الانفعال والغضب!
كان الأستاذ صالح محمّد علي لا يتقبّل أيّ نقاش، إلاّ في حدود ضيّقة جداً، وهو شخص جاد في عمله وإلى حد كبير، ومتابع ومتفهّم له، لا سيما أنّه قبل أن يُعيّن مديراً عاماً للشركة، كان يشغل مديراً فنيّاً لها ولفترة طويلة، وهذا ما يعني أنه على اطلاع ومعرفة تامّة بكل خفايا الشركة، فتراه يتابع بريدها الوارد والصادر، وبحذر شديد، ويحرّر القرارات ويصدّرها ويشرف على تنفيذها بنفسه، فضلاً عن دراسة التعليمات التي يصدّرها بدقّة متناهية ويرسلها للجهات الإدارية قبل استصدارها بصورتها النهائية، ويكتب كل شيء صادراً عنه بيده، وبخطه الجميل.
وفي إحدى المرات، كان فد أشار عليّ بعدم دخول أيّ من العاملين إلى مكتبه، حتى وإن كان معاونه، إلاّ بعد أخذ الإذن بالدخول منه شخصياً، وكان يمانع في ذلك ويتشدّد رغم أنّه إنسان متفهّم ومثقف، وله شخصيته المتفرّدة في العمل، ويتابع، كما ذكرت كل صغيرة وكبيرة، ويحضر الاجتماعات الدورية بخصوص لجان تسويق الشوندر، قبل وأثناء المباشرة في دورة التشغيل السنوية، وزياراته المتكرّرة إلى المؤسسة العامّة للسكر، في مقرّها الرئيسي في مدينة حمص، والتحضير لاجتماعات وزير الصناعة السنوية الذي طالما يقوم بزيارة معامل السكر في فترة التشغيل، بصورة دائمة، وتراه طوال اليوم مرتدياً الزيّ الخاص بالعمل، ومتابعاً لمراحله في كل مواقع الشركة، وبدون تذمّر.
وفي كثير من المراحل فإنّي وجدت في صورة المهندس صالح محمّد علي، وهو المنحدر من سلالة طيبة، والى حد كبير كان ملتزماً ومتشبّثاً بأصول دينه ومحافظاً عليه، وجدتُ فيه الشخصية المتزنة، والتواضع الجمّ، والأب الروحي لجميع العاملين في الشركة التي كان يقود سفينتها بحكمة لم أقرأ أو أسمع عنها.
وللأمانة، فانّ المدير العام لشركة سكر الرّقة كان عصامياً ومتابعاً جاداً لعمله إلى حد الهوس!.. وكانت فترة التشغيل التي عادةً ما تبدأ مع أوّل شهر يونيو/حزيران، وتنتهي مع نهاية شهر أغسطس/آب، قد تطول حسب كميات الشوندر السكري الوارد إليها والذي يُقدم الفلاحون على زراعة مساحات كبيرة منه، وغالباً ما يكون خارجاً عن الخطة الزراعية المقررة في عروتيه الخريفية والربيعية، والأرقام الواردة من اتحاد فلاحي المحافظة بالكاد تكون صحيحة، ما يعني استمرار فترة التشغيل لأكثر من شهر على الأغلب، وكان يعجز المعمل عن استيعاب الكميات الواردة إليه، وأغلبها لا تخص مدينة الرّقة التي تقوم بزراعته فحسب، وإنما تشتمل على بقية المحافظات السورية التي اهتمت بزراعته، وبكميات كبيرة، فضلاً عن أن الحكومة زادت من قيمة سعر الطن الواحد من المحصول لتشجيع الفلاحين الإقبال على زراعته لأجل تشغيل وتغطية حاجة معامل السكر في المحافظات من الشوندر في المواسم المقبلة، وبما يناسب الفلاحين والمستثمرين له، أضف إلى المحافظات التي تهتم هي الأخرى بالإقبال على زراعته، ومنها حماه وحمص وحلب ودير الزور بحكم تواجد المعامل في أغلبها، وتكون غير قادرة على استيعاب الكميات المزروعة، والفائض لديها يرسل إلى معمل سكر الرّقة ومسكنة ودير الزور، وهذا يتطلّب زيادة ساعات تشغيل إضافية، وما يصرف على هذه المعامل قياساً بالمردود فانّه يكاد لا يذكر، ما يعني زيادة في التكاليف التي تحاول المؤسسة العامّة للسكر خفضها من خلال تعاميمها الصادرة والموزعة على إدارة شؤون العاملين في المعامل التي تتبع لها.
وإذا ما عدنا للحديث عن أزمة التشغيل، والمشاكل الكثيرة التي تحدث نتيجة ورود كميات كبيرة من الشوندر السكري، التي يقوم الفلاحون بزراعتها خارج عمّا هو مقرّر، فهذا ما كان يثير حنق لجان التسويق عن المحصول أثناء فترة التشغيل في معامل السكر الموزعة في القطر في فترة الصيف والتي تتجاوز حوالي أربعة أشهر، وخلال الأربع والعشرين ساعة عمل يومية ومتواصلة.
طبيعي أنّه خلال هذه الفترة غير العادية للتشغيل والتي تكون محطّ اهتمام واستنفار جميع العاملين في المعمل، وعلى رأسهم المدير العام، رأس هرم الشركة.. وهذا الاستعداد يبدأ مع انتهاء موسم التشغيل الدوري في كل عام، والاستعداد لأعمال الصيانة في أقسام الشركة جميعها، وهذا ما يتطلب من المدير العام وفريقه الفنّي متابعة كل صغيرة وكبيرة في المعمل لأجل تلافيها في فترة التشغيل في الموسم المقبل، وهذا العمل يتطلّب جهوداً مضنية، ومتابعة غير محدودة من قبل العاملين أيضاً، ناهيك بالإعلان عن المناقصات التي تعلن عنها إدارة الشركة، ويتقدم إليها عدد من متعهدي القطاع العام والخاص، وأكثر ما كانت ترسي على أشخاص بعينهم، ويجري التنفيذ بالتعاون مع عمال الشركة أنفسم لقاء أجور مادية يتفق معهم بشأنها، وبعد الانتهاء من فترة الصيانة المرسومة، والبدء للاستعداد لموسم تشغيل جديد يتم الاستعانة بأعداد كبيرة من العمّال الموسميين لتعويض النقص الحاصل في الكثير من أماكن الإنتاج في الشركة.
إنَّ بدء موسم التشغيل بالنسبة لمعمل السكر، والساعات الطويلة التي يقضيها العاملون في أماكن عملهم، وفي فترة الصيف، وهذا ما كان يدفع بعدد كبير منهم إلى ترك مواقع عملهم والهرب خارج أسوار الشركة، ومن ثم العودة إليها مع ساعات الصباح الأولى، وهذا ينطبق على بعض الأقسام الإدارية، وحدهم الذين يعملون في ورديّة نهارية فقط، وقضائهم ساعات ما بعد الظهر في قيلولة بعد استراحة محارب!
المدير العام للشركة، وعلى الرغم من تمتعه بشخصية قويّة وحسمه للكثير من أمثال هذه القضايا بحزم وبشدّة، وعدم التهاون بها، تحت أيّ ظرف كان، أو تعاطفه مع أحد على حساب العمل، كان يعامل أغلب العاملين بقسوة لصالح العمل، لأن برنامج العمل يتطلب منه ذلك، وإلاّ فسح المجال للأغلبية على مصراعيه بعدم الاهتمام وخلق نوع من الفوضى والاسترخاء، وكان يواجه كل ذلك بتهديدهم إلى الجهات الأمنية تارةً، والى الاقتصاص منهم بفرض عقوبات إدارية فورية وحسم من الراتب، وهذه الصرامة التي يتبعها في معالجة كل ما يعرقل العمل أو يؤثر على أقسام الشركة وتراخي العمّال في بعضها، وهذا ما حدَّ، وبصورةٍ كبيرة، من استشراء الفوضى ولجم أغلبها، وإن كان على المدى البعيد.. ورغم التشدّد والحزم في اتخاذ القرار الذي كان يتبعه، إلاّ أن بعض المساحات ظلّت بحاجة إلى متابعة أكثر، وحسم في اتخاذ القرار المناسب ومعالجة ما أمكن منها.
المكان الذي تقوم فيه الشركة في الرّقة يبعد عن مركز المدينة حوالي ستة كيلومترات، والمدير العام في بعض ما يُطلب منه حضور اجتماعات دورية أثناء فترة التشغيل مع جهات تسويق المحصول في المحافظة، وقد تطول فترة الاجتماعات ساعات، وتتكرر بصورة يومية، وهي عادة ما تسبق فترة التشغيل وأثناءها، وهذا ما يعني لجوء بعض العاملين للهرب خارج أماكن عملهم، وغالباً ما كان يَلمحُ المدير العام هؤلاء العاملين، صدفةً، أثناء عودته بسيارته إلى الشركة في الطريق الرئيسي الذي يربط المعمل بالمدينة، وكان يفرض بحقهم العقوبات الادارية المتاحة، أضف إلى أنه كان يلجأ إلى حسم ما نسبته من كتلة الحوافز الإنتاجية التي تُمنح للعاملين مع انتهاء فترة التشغيل، وهذا ما كان يخلق الكثير من الحساسية، وما ينعكس بصورة سلبية على العاملين الذين كان يتصيّدهم خارج الشركة. الحوافز الإنتاجية التي أنعشت حال مستوى الكثير من العاملين في الشركة، ودفعت بالعاملين في مواقع أخرى بالانتقال إليها بدون جدوى للاستفادة من هذه الميزة التي أنعشت الكثيرين من العاملين فيها، وكانت تصل مجمل المكافآت الممنوحة لبعضهم إلى أكثر من ألفي دولار للعاملين في أماكن حسّاسة، وهذا المبلغ كبير جداً، ما يعادل عشرة أضعاف دخل العامل الشهري، وكان هذا هو الحل الأسلم الذي كان يلجأ إليه المدير العام للجم العاملين الهاربين من العمل وغير الملتزمين في مواقع عملهم!
كان عمل المدير العام شاقاً ومجهداً، يكفي ما يصله يومياً من البريد الوارد والصادر الذي يحتاج إلى تأشيرة منه، وغير ذلك من متابعات شخصية يقوم بها بنفسه والتأكيد عليها، فضلاً عن أنه يقوم غالباً في إعداد الكتب والمراسلات إلى المدير العام للمؤسسة العامّة للسكر ووزارة الصناعة بنفسه، وهذا ما كان يعني بالنسبة له بذل جهد مضاعف يُحمّله طاقة لا حدود لها، ناهيك عن استصدار التعليمات والقرارات، وتحويل البريد إلى الجهات الإدارية والفنية في الشركة، وحضوره الاجتماعات الدورية التي تُعنى بكيفية استقبال كميات الشوندر اليومية، وخاصة في حال حصول عطل فنّي ما في أحواض أو غسالة الشوندر، أو في قسم العينات، وفي فرن الكلس، وهو القسم الرئيسي في المعمل، وأيّ عطل فنّي صغير هذا يعني توقف العمل في المعمل كلياً، وامتلاء ساحته الخارجية بالجرارات والسيارات الشاحنة المقطورة التي تقوم بنقل الشوندر سواء من داخل المحافظة أو من خارجها!
ويحضرني في هذه المتابعة، أنَّ المدير العام كان يبادر بشراء كميات محدودة من السكر الأبيض لزوم مكتبه من جيبه الخاص، ومن أجل استعماله شخصياً، ولأجل ضيوفه ولم يقدم على استعمال ما تنتجه الشركة من سكر الشوندر. هذه كانت قناعته التي جُبل واستمر عليها، ولم يُحاول يوماً، لمجرد المحاولة، أن يستفيد من المكان الذي كان يشغل فيه منصباً متفرّداً، على الرغم من أنه كان قادراً على ملء جيوبه بمبالغ مالية هائلة على ضوء الصرفيات الكبيرة التي كان يقوم بالتوقيع عليها، والتي كان يستفيد منها آخرون في ظل وجوده، ولم يكن يرغب هو شخصياً، في اتباع هذا السلوك الذي كان يرفضه بتاتاً، ولو أراد الانغماس فيه لحقق ريوعاً مادية كبيرة جداً.
في الواقع كان المهندس صالح محمد علي المدير العام لشركة سكر الرّقة مثالا في النزاهة والتفاني في عمله والإخلاص له، والأمين على سير خط الشركة بما يرضي ضميره، فضلاً عن الطباع التي كان يتحلى بها والتي كانت من الندرة أن تجد أحد غيره يتصف بها، فكان حريصاً على مسيرة الشركة ونجاحها، على حساب راحته التي كانت تشغل فكره طوال فترة التشغيل وما قبلها وبعدها، وهو الذي كان يضطر إلى إرضاء زيد وعمر سواء لجهة قيادات الفروع الأمنية وعناصرهم في المحافظة، أو المحافظ وأعضاء قيادة فرع الحزب، واتحاد الفلاحين ومديرية الزراعة وأعضاء لجان تسويق الشوندر، والمدير العام للمؤسسة العامة للسكر، وحتى الوزير المختص شخصياً، وكان في أكثر من مرّة يدفعه واقع العمل الحالي إلى تقديم استقالته التي طالما تُجابه بالرفض نتيجة التدخلات من قبل المسؤولين في عمله، إلاّ أنَّ طلب استقالته كان يلقى الرفض من قبل جهات وصائية عليا، وظل رغم ذلك مستمراً في عمله الذي أخلص له لفترة أطول إلى أن قرر أخيراً ترك موقعه الذي كان يدر على غيره ملايين الليرات السورية، ما يعني أن أخلاقه وطباعه الحسنة، وصدقه مع نفسه ومع الآخرين دفعت به إلى الامتثال للأمر الواقع وترك العمل الذي قضى فيه سنوات، حفاظاً على مكانته والحال الذي كان يعيشه وأسرته، والتزامه الأدب تجاه أصدقائه ومعارفه، كل ذلك دفع به للحيلولة دون إكمال مسيرة عمله في المكان الذي نجح وتميّز فيه، وكان بحق المدير العام الذي يستحقها من صفة ظلّت تلازمه إلى ما بعد تركه العمل، فظلّ وعن جدارة، من المدراء القدوة والندرة.