إلا أن الصورة اليوم معكوسة تماماً، فقد بدأت فصائل عدة من "الحشد الشعبي" بيع فائض سلاحها لتجار السلاح والمواطنين ومليشيات أخرى أكبر منها حجماً ونفوذاً، وجهات أخرى، بينها حزب مشارك في السلطة اشترى كمية منها وفقاً لمصادر أمنية عراقية تحدثت لـ"العربي الجديد". وأكدت المصادر أن عشائر عراقية في البصرة وميسان وبابل والنجف والقادسية وذي قار اشترت أسلحة أيضاً، ما ينذر باستمرار حالة الانفلات الأمني في العراق، في الوقت الذي رفض مكتب رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي الإجابة عن سؤال لـ"العربي الجديد" حول سبب عدم شراء الحكومة تلك الأسلحة ومنع انتشارها في الشوارع مرة أخرى.
والسلاح المعروض عادة ما يكون من خلال مجموعات مغلقة على موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، كما في مجموعة "بيع وشراء السلاح في مدينة الصدر"، أو مجموعة مفتوحة كما في "بيع وشراء السلاح ببغداد والمحافظات"، التي يتم من خلالها الاتفاق على السعر، فيما تقوم جهة البيع بإيصال السلاح للشاري على مسؤوليتها، بسبب امتلاك عناصر "الحشد الشعبي" هويات وبطاقات تعريفية تخولهم حمل الأسلحة والمرور عبر نقاط وحواجز التفتيش. ويوجد سوقان شرق بغداد، الأول في حي أور والثاني في قطاع 24 بمدينة الصدر، عدا عن السماسرة الذين يتولون مهمة إدارة عملية البيع والشراء.
وتتفاوت أنواع الأسلحة، فهناك الأميركية مثل بنادق الـ" M16" والـ"M4" ومسدسات "غلوك" النمساوية وبنادق قنص أميركية أو روسية، والكلاشينكوف والقنابل اليدوية، وتنتهي عند أسلحة متوسطة مثل رشاش "مينغون" الأميركي، وصواريخ الـ"SBG9" الروسية. ويقول عنصر بارز في مليشيات "الحشد الشعبي"، طلب عدم الكشف عن اسمه، إن الأسلحة التي بدأت تباع حالياً تعتبر فائضة، وهناك عناصر لديهم أكثر من ثلاث قطع أسلحة، ولم يعودوا بحاجة إليها اليوم كون القتال انتهى تقريباً في العراق، وبسبب تأخر مرتباتهم بدأوا ببيعها. ويضيف، في اتصال هاتفي مع "العربي الجديد"، إن "فصائل محدودة فقط، وصغيرة الحجم، باعت أسلحة بشكل منسق أخيراً، والباقي كله من أفراد. وهي لا تبيع، بكل حال، إلا لمن تتأكد أنه ليس إرهابياً، كما تثق بأن السلاح لن يصل في ما بعد لأي إرهابي"، معتبراً أن "أغلب الجهات التي اشترت منهم السلاح موثوقة وأمينة"، موضحاً أنه "تمت مصادرة السلاح من داعش أو من خلال تسليح الحكومة السابق لفصائل الحشد الشعبي". وعن وجود أسلحة حديثة أميركية وبريطانية وأوروبية مختلفة، يقول "نعم صحيح. هذه من أسلحة المساعدات الغربية للعراق خلال السنوات الماضية، والتي حصل الحشد خلال القتال على جزء منها".
وما زالت التقديرات تتحدث عن وجود عشرات المخازن من سلاح المليشيات داخل بغداد وحدها، وتحديداً في مناطق سكنية مختلفة في الرصافة ببغداد، رغم أوامر أصدرها العبادي في يوليو/تموز الماضي تقضي بإخراج "الحشد الشعبي" وكافة الفصائل المسلحة الأسلحة الثقيلة من العاصمة وتسليم منصات الصواريخ التي تملكها للجيش العراقي. ويقول عضو لجنة الأمن والدفاع البرلمانية، النائب ماجد الغراوي، لـ"العربي الجديد"، إن "الجهات الحكومية معنية بالملف، خصوصاً جهاز الأمن الوطني ووزارتي الداخلية والدفاع، وما زالت الظاهرة مستمرة والأسلحة تباع في الأسواق والمحال وأماكن كثيرة، وقد ساهمت المعارك السابقة مع داعش في اتساعها". ويضيف "الموضوع ليس جديدا، لكنه اتسع، وعلى الحكومة أن تقوم بواجبها وتعتقل الباعة والسماسرة، ولا أقول هم من الحشد بل مندسبن بالحشد، وكذلك على مستوى عناصر أمن ومنتسبين في الجيش والشرطة، وهذا الأمر مثبت لدى الأجهزة الرقابية، مع وجود نقص بالسلاح في الوحدات العسكرية"، مطالباً الحكومة بـ"شن حملة لاعتقال الباعة والسماسرة والمتورطين في سوق السلاح".
ويوضح عضو البرلمان، مازن المازني، أن "السلاح الموجود خارج سيطرة الدولة بات أكثر من السلاح الموجود لدى الدولة العراقية نفسها". ويضيف، لـ"العربي الجديد"، أنه "من أجل أن تكون هناك صيغة صحيحة لعراق مستقبلي يجب سحب السلاح وحصره بيد الدولة فقط، وإلا فنحن أمام سيناريو آخر خطير"، مبيناً أن "المتورطين ببيع السلاح هم عبارة عن أفراد ومجموعات داخل بعض فصائل الحشد، لكنهم يعملون لصالحهم الشخصي، وهذا تحدٍ للحكومة. لكن أعتقد أنه قريباً سيكون الصوت العالي هو صوت الدولة، بهذا الملف تحديداً".
من جانبه، يحذر مسؤول عراقي في لجنة المصالحة الوطنية المرتبطة بالحكومة من "خطورة بيع السلاح داخل المدن، وإعادة تسليح العشائر والمليشيات والمواطنين، الأمر الذي يؤثر على ما نطمح له من التعايش السلمي داخل البلاد"، مؤكداً أنّ "المشكلة تكمن بعدم قدرة الحكومة على التعامل مع هكذا ظاهرة تهدد السلم الأهلي". ويضيف، في حديث لـ"العربي الجديد"، أنّ "بيع السلاح، وبهذه الكميات الكبيرة، وبهذه النوعيات، يؤشر إلى ضعف سلطة الدولة مقابل سلطة المليشيات، والتوجه نحو العشائر والاحتماء بها بدلاً من الدولة، ما يعني عودة الملف الأمني إلى الانتكاس مجدداً، في وقت نسعى ونطمح فيه إلى أن يكون السلاح بيد الدولة فقط، وأن يعتمد المواطن على الأجهزة الأمنية بتوفير الحماية له". ويتابع المسؤول، الذي طلب عدم ذكر اسمه، أنه "وفقاً للقانون، يجب على الحكومة أن تحيل بائعي ومروجي السلاح إلى القضاء، الذي يجرم هذه الأعمال، ووضع عقوبات تصل إلى الإعدام لكل من روج وعمل في بيع وشراء السلاح، لكنّ الحصانة القانونية للحشد تحول دون تنفيذ ذلك، ما انعكس سلباً على أمن البلاد".
ويقول الخبير القانوني، هاشم الجحيشي، لـ"العربي الجديد"، إنّ "القانون العراقي يجرّم التعامل بالسلاح وبيعه، خصوصاً السلاح المتوسط والثقيل وعتاده وما الى ذلك من ذخائر وألغام ومتفجرات، وتصل بعض العقوبات إلى الإعدام"، مستدركاً "لكنّ الحكومة لا تستطيع أن تتعامل مع الحشد وفقاً للقانون، خصوصاً أنّ الحشد مخول بفتح مخازن سلاح خاصة، ونقل السلاح، بشكل شخصي وغير شخصي، الأمر الذي منحهم شبه حصانة من سلطة القانون، وإن لم تكن حصانة منصوصا عليها بصريح العبارة". ويؤكد أنّ "الخلل يكمن هنا، في عجز الحكومة عن تطبيق القانون على الحشد، ما يعني استمرار بيع السلاح والمتاجرة به، وعسكرة المجتمع بأنواع مختلفة من الأسلحة الخطيرة، التي لا يمكن أن تستخدم إلّا من قبل الجيش"، داعياً الحكومة إلى "إيجاد حل لهذا الملف الخطير والذي ستكون له نتائج وخيمة على أمن البلاد".