ملوك "الريموت كونترول"
الألحان الافرنجيّة الحالمة تداعب أسماعنا. الأضواء الخافتة تنقلنا إلى مكان ساحر، مزدان بالألوان البرّاقة، مكان لا نتعرف عليه، حتى يبدأ مقدّم البرنامج "الأستاذ مارسيل"، بصوته المألوف، فيقول إنّ الحلقة تُصوّر مباشرةً "من باريس"، حلقة واضح أنّ الجانب الدعائي فيها مهم جداً، بالنسبة لمَن فكّر فيها. يأخذنا بعدها الأستاذ داخل قصر الزعيم اللبناني في باريس. تمرّ طوابق عدّة، بينها سجّاد أحمر، لا ينتهي، إلى أن تقع أنظارنا على سعد الحريري، بينما هو في غرفة فخمة مذهّبة، جالس أمام الكومبيوتر، يركّز جلّ اهتمامه على اجتماع يجريه عبر الأقمار الاصطناعية مع فريق عمله من لبنان حول "أوضاع مدينة طرابلس"، المدينة التي انخفضت شعبية تياره فيها. أحمد الحريري، الأمين العام لتيّار المستقبل، يخبره أنّ هناك 1000 وحدة سكنيّة من ضمن هبة 20 مليون دولار، قدّمها سعد الحريري، سيتمّ تشييدها في التبانة التي دُمرت، خلال صراع مسلّح مَوّله الكلّ في جولات دارت مع الفقراء الجيران من منطقة جبل محسن. لكنّ الحريري، الذي ضربه الملل فجأة من لغة قريبه البيروقراطية، فقاطعه قائلًا: "لا أريد دراسة، قوموا بزيادتهم". وبإشارة من إصبعه، أمر الزعيم الذي جلس طوال الوقت عاقداً يديه أمام صدره، بطريقة ارستقراطية. لم يتردد بزيادة مقدار المكرمة المفترضة على سكان المدينة. بعدها تكلّمت ريّا الحسن، وزيرة المالية السابقة، عن إحدى أهداف الهبة، وهو "استهداف الفقر". الفقر في التفكير الرأسمالي النيوليبرالي مرض خبيث، يأتي من حيث لا يدري أحد، ليفسد النيّات الحسنة للطبقة الحاكمة، بالتنمية "المستدامة". في تلك السردية، لا يعود سبب ارتفاع البطالة إلى الاختفاء التدريجي للمشاريع الإنتاجية، كالمصانع التي كانت موجودة بكثرة في المدينة، ويتمّ تناسي التدهور الهائل للزراعة في الريف المحيط بها، وهجرة الفلاحين وأولادهم منه إليها، ليعملوا حرّاس أمن ومرافقين عند خواجاتها المحدثين، ومَن لا يجد عملاً فهو ينتظر الهجرة بصمت. لا يستعيد أحد من "فريق العمل" حقيقة أنّ مدينة طرابلس كانت، منذ زمن ليس بعيداً، من أهم المدن الصناعية، قبل أن تفلح وببطء، السياسة الحريرية النيوليبرالية، ومعها باقي الطبقة الحاكمة اللبنانية منذ التسعينات، في تهميش قطاعي الزراعة والصناعة، من أجل جمهورية سوليديرية حرّة مستقلّة، ملؤها قطاع الخدمات وأرباح الريع العقاري، ما جعل المدينة أرضاً يباباً، وحقلاً خصباً لاقتصاد حروب أهلية صغيرة، خدمة لأجندات محلّية واقليميّة.
ليس كلّ ذلك غريباً عن النهج الاقتصادي الذي ميّز تيار المستقبل، منذ بدايته. كان تيار المستقبل، دائماً، شركاتيّة رأسماليّة (كربريشون) كبيرة، تعتبر أنّ الفقر بمثابة القدر المحتوم على اللبنانيين، وهو تضحية معقولة، من أجل "النمو" الذي يعود، في النهاية، لقلّة من المستفيدين. بعد كلّ ما حدث من دمار للمدينة، وبدل أن يبادر سعد الحريري، وهو الملياردير والرئيس السابق للحكومة، ورئيس أكبر كتلة من النواب المنتهية صلاحيتهم الدستوريّة، إلى إنشاء المصانع، أو الدعوة إلى إنشاء المشاريع الحكومية الإنتاجية التي يمكن أن توفّر أعمالاً لأهل التبانة وجبل محسن، وتجنبهم العوز، فتقيهم شرّ بيع الذمم، فإنّ استراتيجيّة التفكير النيوليبرالية المهيمنة لدى فريقه تركّز، في المقابل، على "الفيلانتروبيا"، أو المنظور الخيري. ما يعنيه ذلك هو التوجّه بعطاءات نحو الفقراء، لإشعارهم بما يكفي من الأمل، يحول دون أن يطالبوا بتغيير جذري في بنية الاقتصاد الرأسمالي في بلادهم، ولكي يتحمّلوا بؤسهم على أنه قدرهم. مثال طرابلس على ذلك فاقع للغاية: إنّ أعلى نسب من البطالة الكاملة، والمقنّعة، في لبنان، هي تلك الموجودة في "التبانة" و"جبل محسن"، منذ ما قبل عام 2011. وقد ازدادت هذه سوءاً مذ تدفّق اللاجئون السوريون الذي ينافسون على فرص عمل شحيحة أصلاً.
الفيلانتروبية الرأسمالية تعني، هنا، أنّه يمكن ترميم بعض الوحدات السكنية، أو طلاء بعض الجدران بالألوان المبهجة، أو افتتاح "ورش العمل" التي تعلّم الشباب، مراراً وتكراراً، أساليب "القيادة والحوكمة"، بينما يظلّ هؤلاء في الحقيقة من دون أي عمل. ويمكن تفريخ جمعيات غير حكومية إلى ما لانهاية، وتلك لها أجندات، قد لا تتعدى تنظيف شارعٍ في أحسن الأحوال، تُشغل الشباب والشابات العاطلين عن العمل عن التفكير مليّاً بأسباب بؤسهم الحقيقية، وتستغلّ قوّة عملهم تحت شعار "التطوّع"، أو تقوم بتنفيع بعض الأزلام والمفاتيح الانتخابية للانتخابات المقبلة غير الدستوريّة، أو القيام بدورة تدريب على الكومبيوتر، لن تفيد حتى في استعمال "فيسبوك"، بشكل أفضل على الخليوي الأحدث، الذي يقوم البنك بتقسيطه للشاب مدة سنة...
في كلّ ما سبق، يعطي رأس المال الفتات من أجل الدعاء له بطول العمر، بينما يستمرّ هو بالاستفادة، بأقصى ما يستطيع، من الأوضاع الموجودة لتحصين قوّته. بهذه الطريقة أيضاً، يضمن منفذو سلطة الرأسمال الإبقاء على الناس الغارقين في البطالة، ما يجعلهم لقمة سائغة أمام الزبونيّة السياسية. وعندما ينتبه الشاب، أو الشابة، لذلك كله، يكون قد فهم أنه مجبر على الهجرة إلى الخارج، على الرغم من أنّ سعد الحريري الذي أبدى، من باريس، خوفه من انعدام الأمل لدى الشباب اللبناني، أمر مَن تراوح أعمارهم بين 18 و25 سنة بالبقاء في لبنان، وعدم الهجرة منه.
ليس ذلك كله أمراً جديداً. بل ما هو كذلك في أداء الحريري التلفزيوني هو أنموذج الرأسمالي في لبنان، ومن فرط إحساسه بالسيطرة، بات يعتقد أنّه يستطيع تحريك الناس على أصابعه، عن بُعد من خلال الدعاية التلفازية و"فيسبوك" و"تويتر". وللإنصاف، ليس سعد الحريري الوحيد في لبنان الذي توصّل إلى هذه القدرة الجبّارة، بل بات كلّ الزعماء اللبنانيين تقريباً يعتقدون، بدرجة أو بأخرى، أنّ ذلك أصبح ممكناً: ليس المستعمل الاعتيادي لشبكات التواصل الاجتماعي، وحده، مَن قد يتهيّأ له، مثلاً، أنّ الحياة تدور حصراً على "فيسبوك"، بل إنّ زعماء ورأسماليين ومثقفين وزعماء دينيين كثيرين أصبحوا يقعون، هم أيضاً وتباعاً، في براثن هذا الوهم، فيتهيّأ لهم أنّ مؤتمراً سياسياً يجب أن يقوموا به يمكن الاستعاضة عنه أمام المواطن، بتغريدات تويترية، تُرمى له كالفضلات التي تُرمى للكلاب الشاردة. ويمكن لك أن تتخيّل، مثلاً، أن يقوم الزعيم برياضة المشي صباحاً على رصيف الشانزليزيه، أو أن يسبح في منتجع في جزر الكاريبي، ثم يستريح، بضع دقائق، فيرسل تغريدة تقول "لن نركع. لبنان للبنانيين فقط".
تمتزج هذه الفيلانتروبيا، اليوم، بإحساس "جديد"، قوامه الارتكاز المضخّم جداً على شبكات التواصل الاجتماعي والطرق الدعائية والتغريدات المهضومة. في ما مضى، كان عليك، كزعيم سياسي تخاف عدم تصديق الناس لك، جراء واقع مزرٍ كهذا، أن تقول بعض الكلام المقنع، وتتكلّف مشقّة الحضور بين الناس على الأقلّ، وأن يكون لك الصدى الدائم بين جمهورك، لتضمن ولاءهم. لكنّ الزعيم، اليوم، أصبح لا يكترث، حتى في معرفة ما إذا كانت طريقة تمثيله نفسه مقنعة للغير أم لا، فهو، هنا، يأمر أولاد مدينته البائسين عبر "تويتر" "بالأمل وعدم الهجرة"، ما أثار السخرية لدى جمهوره بالذات في المدينة، إذ أظهر ذلك كله من برجه الباريسي العاجي، كلّ التعالي الطبقي الموجود عند الطبقة الرأسمالية الحاكمة تجاههم. في ما مضى، كان الزعيم يتقرّب من الناس، ليحاول أن يزيّف الفارق الطبقي الموجود بينه وبينهم، لكن المفارقة، اليوم، أنّ ذلك بات أصعب عليه، إذا ما التجأ إلى "تويتر" أو "فيسبوك"، خصوصاً إذا كان يعيش في الخارج، بشكل شبه دائم. إنه تناقض يأتي مع السهولة التي تتيحها هذه الوسائل في التفوّق على الجغرافيا."هو يجلس في قصره، ونحن نموت من الجوع هنا كالكلاب، ثم يطلب من الشباب الا يهاجروا!"، قال لي أحد الطرابلسيين الذي ينتظر على أبواب السفارات للهجرة. "لقد أصبح زعماؤنا ملوك الريموت كونترول يا معلّمي!". ربما على الزعيم أن يتمشى بين جمهوره بين كلّ فينة وفينة. مرّة كلّ خمس سنوات يا أخي... ماشي!