لكلّ مهاجر سوري تمكّن من عبور البحر ووصل في نهاية رحلته إلى ألمانيا، حكاية خاصة به. لكنّ مخاوف واحدة تجمعه مع آخرين، أبرزها الخوف من البحر. لعلّ الأشخاص المكفوفين هم الوحيدون الذين يشكلون استثناءً في هذا، فقد أجمع كثيرون منهم على أنّهم لم يخشوا البحر أبداً. يقول أحدهم إنّ صوت البحر جميل، فيما أخبر آخر أنّ "كثيرين في القارب قالوا إنّهم سينامون خلال الطريق كي لا يروا البحر. فعلقت ضاحكاً: وأنا الذي لا أرى سأبقى مستيقظاً وأعلمكم عند الوصول، لكن كيف لي أن أعلم أننا وصلنا؟".
تكمن الصعوبة في أمرين خاصين بالأشخاص المكفوفين دون غيرهم، أولهما الخوف عند الصعود إلى القارب، وثانيهما الخوف لدى الوصول إلى الشاطئ، بحسب ما يؤكد أحدهم.
أحمد العثمان، مكفوف سوري، أمسك به خفر السواحل التركي خمس مرات، وسجنه. في المرة الأخيرة أجبر على توقيع تعهّد بعدم محاولة الهرب مرة أخرى عبر القارب إلى أوروبا، وعدم التعامل مع المهرّبين. يقول مازحاً: "كان من السهل عليهم أن يمسكوا بي أنا بالذات، فالهرب أسهل بالنسبة إلى الآخرين". يتابع: "أكبر عقبة عندي خفر السواحل. كنت أحدّث نفسي أنّي إذا تمكنت من الفرار منهم، سأصل إلى ألمانيا. كلّ شيء يسهل بعدما أنجو من قبضتهم. لكنّ العقبة الأخرى اكتشفتها لاحقاً، وهي الصعود إلى القارب، إذ علينا الإسراع في الإمساك به ومن ثم الصعود. غمرني الماء بالكامل قبل أن تصل قدماي إليه".
أما معاناته خلال الطريق فتمثلت في وحدته وغياب المعلومات عنه. لم يخبره أحد عن مسار الرحلة ولا البلد الذي وصلت إليه. كان يمضي مع الجموع ويستريح معها، ويسمع بين الحين والآخر أنهم وصلوا إلى هذا البلد أو ذاك. إحدى أبرز محطاته كانت مقدونيا، حيث بقي هناك أربع ليالٍ وأكل ما قُدّم له وأضاع فردة حذائه. كان يخشى على الدوام أن تنساه المجموعة ويبقى وحيداً. لم يشعر العثمان بالأمان إلاّ عند وصوله إلى النمسا. هناك، تحدث معه مترجم عربي وتعرّف على طلباته، منها حصوله على حذاء جديد. يقول: "فرحت بالحذاء كثيراً، وشعرت بالفرج القريب".
أما عبد الله، وهو شخص مكفوف سوري من دمشق، فيقول إنّ رحلته "لم تكن شاقة، وقد سهّل الله أمري". كان برفقة ابن خالته الذي أعانه خلال الطريق، وهو من ساعده على صعود القارب والنزول منه.
حسن، شخص مكفوف آخر، وصل إلى ألمانيا بعد رحلة شاقة استمرت أكثر من شهر، وفقد خلالها القدرة على عدّ الأيام، بحسب ما يقول. حصل على الإقامة ويريد أن يكمل دراسته، ولو أنّه يواجه مشكلة تعلّم اللغة، إذ هو يحتاج إلى طريقة خاصة في تعلّم الأحرف والكلمات. لكنه يؤكد على قدرته على تعلم الكثير من خلال السمع، ويمكنه أيضاً تعلم اللغة من دون ورقة وقلم. مع ذلك، يحتاج إلى الاجتماع مع أشخاص مكفوفين ألمان أيضاً، كي يتمكّن من هذا.
حسن جاء إلى ألمانيا وحده. يقول إنّ المهاجرين السوريين ساعدوه طوال الطريق، لكنّ اللحظة الأصعب كانت لحظة الوصول، إذ تدافع الناس ليصلوا إلى الشاطئ، وقد ساعد خفر السواحل اليوناني النساء والأطفال بالدرجة الأولى. لكنّه يؤكد: "صديقي الذي تعرفت إليه في القارب، بدأ يصرخ عندما اقترب خفر السواحل: أعمى.. أعمى. بالتأكيد، لم يفهم أحد، إلا أنه ساعدني لاحقاً في الخروج من القارب، وبقي معي طوال الطريق. كان وحيداً مثلي، يشرح لي إلى أين وصلنا وأيّ طريق سنعبر، وما الذي قد يواجهنا من مخاطر عندما كنا نجتاز الغابات. كان خير صديق لي وأفضل ما حصل لي في طريقي إلى ألمانيا".
طريق المكفوفين داخل ألمانيا بالذات لن تكون سهلة أيضاً، فهم في حاجة إلى مرافق وشقق مجهّزة لإعاقتهم، بحسب لورا، التي تعمل في مكتب العمل الألماني. تقول لـ"العربي الجديد": "عليهم أن يعملوا في ألمانيا. ليس بإمكانهم أن يبقوا أسرى منازلهم".
مجموعة اتصال خاصة
بعد وصوله إلى ألمانيا، أنشأ المكفوف السوري عبد الله مع 20 مكفوفاً آخرين يعيشون هناك، مجموعة "واتساب" خاصة بهم. عبرها، يتواصلون صوتياً مع بعضهم بعضاً. هم أصدقاء قدامى من مدرسة المكفوفين في دمشق وحلب. يُذكر أنّه عندما يهمّ أحد المكفوفين بالخروج من سورية، يتواصل مع المجموعة التي تساعده في الوصول. كذلك، فإنّها مصدر لتبادل المعلومات بين السوريين المكفوفين داخل ألمانيا.