معوقات المشاركة السياسيّة للمرأة الفلسطينيّة
أشار تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية من الضفة الغربية، إبّان التحضير للانتخابات البلدية ربيع 2005، إلى انسحاب نساءٍ عديدات تحت ضغوط عائلية واجتماعية وسياسية. فقد سحبت عائلات ترشيح النساء من دون استشارتهن، أو إشراكهن في اتخاذ القرار، على الرغم من تعميم صادر في عام 1998 عن وزارة الحكم المحلي الفلسطيني، والقاضي بتعيين امرأة، على الأقل، في كل مجلس محلي. لم تكن صيغة التعميم ملزمة، ما أفسح المجال للمجالس غير المتحمسة لمشاركة النساء لمحاولة التملّص منه. ولكن، جاءت استجابة بعض المجالس له على مضض، حسب توصيف الناشطة، ريما كتانة نزال.
في المحصّلة، جرى تعيين 68 امرأة من أصل 3739 عضواً معيناً، أي بنسبة 1.8%، ما دفع بعضهن إلى تقديم استقالاتهن، بسبب طريقة تعامل المجلس معهن، إما بتغييب أدوارهن وإعاقتهن عن العمل، أو لعدم معرفتهن بالمهام المنوطة بهن أصلاً.
وفي مارس/ آذار من العام 2002، إبّان الانتفاضة الثانية، وخلال اجتياح الدبابات الإسرائيلية المتقدمة لاحتلال المدن الفلسطينية، تحرت قائدات نساء إمكانية الاحتشاد في الشوارع لإيقافها. كان الجواب بسيطاً وصادماً، كما تقول إصلاح جاد، في كتابها (نساء على تقاطع طرق)، لكنه دال جداً: لقد تبيّن "أننا لسن منظمات لمواجهة اجتياح كهذا".
تلقي هاتان الصورتان الضوء على وضع المرأة الفلسطينية في مناطق السلطة الفلسطينية. كما تشي بأسباب عطالة المرأة الفلسطينية في المشاركة السياسية، في هذه المرحلة الخطيرة من مراحل النضال الوطني التي تم توصيفها بـ"مرحلة ما قبل التحرر وما بعد النضال". وذلك على الرغم من زخم الأنشطة السياسية الفلسطينية، والأحداث التي تتطلّب استنفاراً سياسياً على مختلف المستويات، ومن الفئات كافة. إلا أن الواقع يظهر خلاف ذلك، حيث لا يمكن ملاحظة ذلك التجاوب النسوي المتحفّز دائماً للقيام بالأدوار المتوقعة، كما جرت العادة إبّان مراحل النهوض الوطني الفلسطيني، لمواجهة الأخطار. هذا لا ينفي المشاركة السياسية للمرأة الفلسطينية، لكنه يؤشر بوضوح إلى عدم ارتقاء الفعل إلى المستوى المطلوب، بل وانكفائه.
منذ التسعينيات، بدأ تراجع المد الوطني والمشاركة الشعبية، خصوصاً بعد اتفاقية أوسلو 1993، وما عبّرت عنه في ما بعد، كفترة تاريخية مفصلية في القضية الفلسطينية والمجتمع الفلسطيني على حد سواء، وألقت بظلالها وتأثيراتها المتناقضة سريعاً على مختلف مكونات المجتمع الفلسطيني. ولعلّ شكل الوجود النسوي الفلسطيني داخل مؤسسات المجتمع الأهلية والحكومية، تعبير مناسب عن ما طرأ من تغيّرات جدية على أولويات العمل النضالي للمرأة الفلسطينية، وخصوصاً الحزبي منه.
وعليه، يغدو بناء رؤية جديدة لهذا الموضوع محاولة استجلاء لأهم المستجدات التي أثّرت بعمق على مختلف عناصر المجتمع الفلسطيني، خصوصاً بعد استيعاب مؤسسات المجتمع المدني كوادر نسائية سياسية عديدة، وامتصاص إمكاناتها، وانسحاب البعض الآخر. وبالتالي، كيف أثّرت هذه المتغيّرات على شكل الحضور الحزبي للمرأة الفلسطينية ومضمونه.
من أبرز نتائج "أوسلو" الأولية على الحركة النسوية تقسيمها إلى قسم رأى في الاتفاق مكسباً سياسياً، وقسم ثان رأى فيه خلاف ذلك.
شكّل القسم الداعم للمفاوضات لجنة فنية لشؤون المرأة (طاقم شؤون المرأة)، للمطالبة بتمكين أكثر في مؤسسات السلطة، بالإضافة إلى تبني تشريعات تساوي بين الجنسيْن.. إلخ.
هذا في المناطق الخاضعة للسلطة الفلسطينية. ولكن، لم يكن الوضع أفضل حالاً في دول الشتات التي تتمتع فيها الفصائل الفلسطينية، سواء منها المنضوية في إطار منظمة التحرير أم لا، بحضور، والتي تعتبر ممثلة للوجود الفلسطيني في تلك الدول. ففي سورية، مثلاً، ومخيم اليرموك تحديداً، تحوّلت التشكيلات النسائية المنضوية تحت لواء هذه الفصائل إلى مشاغل للفلكلور والتراث الفلسطيني، ومراكز لدورات تأهيل هزيلة أو وهمية، ومكاتب للعلاقات العامة مع التشكيلات النسائية المماثلة في الأحزاب اليسارية، كما الحال في الجبهتين الشعبية والديمقراطية، من أجل التحشيد لمهرجانات انطلاقة الجبهتين، أو لبعض الفعاليات الأخرى، مثل محاضرة لأحد أعضاء المكتب السياسي، واحتفالية يوم المرأة العالمي، والمناسبات الوطنية الأخرى، مثل يوم الأرض، أو ذكرى النكبة. في حين غابت الفعاليات الوطنية أو الثقافية أو التعبوية عن جدول أعمال الأطر النسائية الفصائلية، حتى عندما كانت الفرصة مواتية لإعادة الاعتبار إلى العمل السياسي النسوي، إبّان الانتفاضة الثانية.
تمثل التحوّل الأبرز بالنسبة للنخب النسائية بإنشاء السلطة الفلسطينية واختلاف مهامها عن حركة التحرر التي مثلتها منظمة التحرير، ما أسّس لعلاقة ملتبسة بين الأحزاب السياسية والأطر النسوية المنضوية في إطارها، وبالتالي، شعور تلك الأطر بالحاجة إلى استقلالية أكبر من الحيّز المتاح لها من التنظيمات التي كانت تنضوي تحت لواء منظمة التحرير. وهذا التباين، بالإضافة إلى الاعتباطية، أضعف التأثير السياسي لهذه الأطر، وقدرتها على التأثير في السياسة العامة.
بعد قيام السلطة الفلسطينية، واجهت الحركات النسائية مهمتين رئيسيتين: الاستمرار في الكفاح الوطني، والمساهمة في مشروع بناء الدولة، والسعي إلى الضغط من أجل حقوق المرأة.
جوبهت الحركات النسائية الفلسطينية ببرنامج عمل "قديم"، مداره التعبئة والتحرير، بالإضافة إلى برامج عمل جديدة، مهمتها تمكين النساء وتحقيق المساواة لهن. وفي الأحوال الطبيعية، يصعب الجمع بين البرنامجين، فكيف يكون الحال في وضع صعب، يشكل فيه الاحتلال الإسرائيلي تهديداً للدولة والمجتمع، يستهدف وجودهما المادي بالأساس؟
تكشفت الخطورة القصوى للوضع الذي آلت إليه التشكيلات النسائية الفلسطينية، في مناطق السلطة، بعدم جاهزية تلك التشكيلات لمواجهة الاعتداءات الإسرائيلية. وهذه نتيجة طبيعية لنشوء مجتمع مدني فلسطيني جديد غير مسيّس. وعلى الرغم من أنه يوفّر مجالاً لإمكانية إرساء الديمقراطية وحقوق الإنسان، وبالتالي حقوق المرأة، إلا أنه، فعلياً، فشل في تنظيم مختلف الفئات وتجنيدها، وخصوصاً مجموعات النساء الهادفة إلى مقاومة الاحتلال. وذلك في مقابل نمو قوة الإسلاميين الذين أخذوا على عاتقهم مسؤولية النضال الوطني، على الرغم من النظر إليهم على أنهم أصوليون وغير ديمقراطيين، ولا يشكلون جزءاً من المجتمع المدني "الحقيقي".
وهكذا، خلّف التحوّل في دور قطاع المنظمات غير الحكومية، في عهد السلطة الفلسطينية، آثاراً عميقة على مختلف أنماط النشاط النسائي. كما أنشأ التغيّر ضغطاً على الحركات النسائية، لنقل برامج عملها من الجمع بين الكفاح الوطني وتحرير المرأة إلى استهداف الدولة للمطالبة بحقوق المرأة، ما قلّص كثيراً مشاركتها السياسية. كما أسهم ظهور الإسلام السياسي على الخارطة السياسية الفلسطينية، في إقصاء المرأة عن المشاركة السياسية. وعلى الرغم من محاولات السلطة الظهور بمظهر العلمانية والديمقراطية، وإحقاق حقوق المرأة، استجابة لشروط الدول المانحة، إلا أن مناهجها التعليمية تتعارض مع هذا التوجه، وخصوصاً منهج التربية الإسلامية.
توجهت دروس لتكون المرأة للبيت، وإذا ما خرجت منه، فإنما تخرج لشأن متعلق بالبيت كشراء القطايف، فيما يخرج الولد للعمل التطوعي. في حين صُوّر الأب أنه يعمل ليل نهار للإنفاق على الأسرة، فيما صُوّرت الأم على أنها المناط بها دور التربية والرعاية في المنزل، ولا تخرج منه إلا بإذن زوجها. ما يوضح رضوخ السلطة الفلسطينية لتأثير رجال الدين.
لدى الإعلان عن وثيقة حقوق المرأة الفلسطينية عام 2009، هاجمها مفتي محافظة جنين، الشيخ محمد صلاح، بشدة، واعتبرها وثيقة في ظاهرها حقوق، وفي داخلها تمرد على القيم والمبادئ والأخلاق والدين الإسلامي الحنيف، وناشد المفتي الرئيس محمود عباس وقف هذه الوثيقة، وأمثالها، لمخالفتها النصوص الشرعية.