معركة عرسال: نتائج باقية وتتمدد

29 ديسمبر 2014
يعيش لبنان تحت وطأة الأزمة السورية (فرانس برس)
+ الخط -

دخل لبنان الحرب السورية بشكلٍ رسمي في النصف الثاني من عام 2014، وتحديداً في أغسطس/آب، عندما اشتبك الجيش اللبناني مع مقاتلين من تنظيم الدولة الإسلاميّة (داعش) الذين احتلوا بلدة عرسال (شرق لبنان) على خلفيّة توقيف الجيش، أحدَ قياديي التنظيم حينها (وقائد لواء فجر الإسلام الذي طرده "داعش" بعد أشهر). ثم دخلت جبهة النصرة على خطّ المعارك وتمّ أسر عدد من الجنود ورجال الشرطة اللبنانيين، أطلق سراح عدد منهم وبقي 26 رهن الاختطاف، وتم إعدام أربعة منهم.

قبل الدخول الرسمي، دخل حزب الله، بشكل واسع إلى سورية للقتال إلى جانب النظام، وأعلن أمينه العام حسن نصرالله هذا الأمر رسمياً عام 2013. كما توجّه بعض المقاتلين الإسلاميين إلى سورية للانضمام إلى الفصائل الإسلاميّة المتشدّدة.

منذ بداية الثورة السوريّة، قررت الحكومة اللبنانيّة اعتماد سياسة "النأي بالنفس"، واستمرت هذه السياسة معتمدة إلى حين تأليف حكومة الرئيس تمام سلام. فالنأي بالنفس الذي اعتمدته حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، سقط مع إعلان حزب الله تدخّله رسمياً؛ لكنّها بقيت السياسة الرسميّة، وخصوصاً أنّها عنت عدم معالجة الحكومة لأيّ من انعكاسات الأزمة السوريّة على لبنان، وأبرز هذه الانعكاسات ملفّ اللاجئين.

في عهد حكومة ميقاتي، قضت سياسة "النأي بالنفس" باستقالة الحكومة من العمل في كلّ الملفات، لكنّ الخلاف السياسي الحاد بين أطراف الحكومة وتيار المستقبل الموجود خارجها، سمح بحدود مقبولة من دعم الثورة السوريّة إنسانياً (وفي بعض الأحيان عسكرياً). واعتُبرت بعض المناطق بيئة حاضنة للمعارضة السوريّة، وخصوصاً الجيش الحرّ (عرسال وشمال لبنان والبقاع الغربي بشكلٍ خاص). كما سمح غياب السياسة الرسميّة اللبنانيّة، بدخول مئات آلاف اللاجئين السوريين إلى لبنان.

تغيّرت الأمور منذ فبراير/شباط من عام 2014، مع تأليف حكومة الرئيس تمام سلام. دخل تيار المستقبل شريكاً أساسياً في الحكومة. واتخذ التيّار عنوان "محاربة الإرهاب" لمشاركته هذه، التي جاءت بالتوازي مع التغيير في المواقف العربيّة والدوليّة من جبهة "النصرة" وتنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) والتنظيمات الإسلاميّة الأخرى الناشطة في سورية، وقد تولّى نهاد المشنوق وزارة الداخليّة ممثلاً لتيّار المستقبل.

بدأت محاولة علاج ملف اللجوء السوري مع الحكومة الجديدة، لكنّها أخذت طابعاً أمنياً، ثم قررت الحكومة إغلاق الحدود أمام اللاجئين السوريين، وتشدّدت في إجراءات الدخول على المعابر الحدودية مع سورية. وكان الفلسطينيون اللاجئون في سورية هم الضحيّة الأبرز لهذه السياسات. 

كما بدأ تيّار المستقبل بتقديم التنازلات، واحداً تلو الآخر لحزب الله. بداية هذه التنازلات كانت في بلدة الطفيل، عندما غطّى عملية إفراغها من سكانها بطريقة رسميّة تمهيداً لاحتلال الجيش السوري ومقاتلي حزب الله البلدة، في يونيو/حزيران الماضي. "حادثة" الطفيل، لم تكن سوى مؤشّراً للتعاطي الرسمي اللبناني مع الملف السوري. فبعد التضييق الأمني على اللاجئين، بدأت الأجهزة الأمنيّة الرسميّة بملاحقة ضباط الجيش السوري الحرّ ومقاتليه الذين يدخلون لبنان للعلاج من الإصابات، أو للراحة بعد معارك طويلة.

انفجر الوضع مع توقيف عماد جمعة في عرسال. حتى اليوم، لا أحد يعرف ما هو سبب توقيفه. يُتهم الرجل بأنه مسؤول عن الأحداث التي حصلت بعد توقيفه من احتلال لبلدة عرسال لأيام والاشتباك مع الجيش وخطف وقتل العديد من عناصره.

يقول محامو جمعة إن ملفه فارغ، ولا شيء يُدينه، إذ إن القانون لا يُحاسبه على فعل حصل خلال توقيفه. وهذا ما يؤكّده سياسيّون رفيعو المستوى في لبنان. إذ يعزو مصدر من سياسيي "الصف الأوّل"، ويُفضّل عدم كشف اسمه، أنّ سبب ما قام به الجيش هو طموحات قائد الجيش الرئاسيّة! الأمر عينه يُكرّره وزراء في الحكومة اللبنانيّة من فريق الرابع عشر من آذار.

لم يجرِ حتى اليوم أي تحقيق لمعرفة الأسباب التي دفعت الجيش اللبناني إلى اعتماد سياسة جديدة في التعاطي مع مقاتلي الجيش السوري الحرّ وضبّاطه، على الرغم من أنّ السياسة الرسميّة للبنان لا تزال "النأي بالنفس"، وعدم الانحياز لفريق من دون آخر في الصراع الدائر في سورية.

لكن لم يعد هذا التحقيق ذا قيمة فعليّة اليوم. فقد دخل لبنان الرسمي الحرب السورية، أو أدخل الحرب السورية إلى لبنان. ولا يزال التعاطي الرسمي اللبناني مع الوضع السوري يطرح علامات استفهام. ومن الأمثلة الصارخة، احتجاز القوى الأمنيّة لستة من كبار ضباط الجيش السوري الحرّ في القلمون، وهو أمر ساهم في تسهيل سيطرة "داعش" على القلمون عبر ضرب القوة السورية التي يُمكن أن تواجهها.

تركت المعركة التي تسبب فيها توقيف جمعة آثاراً وتحديات لا تزال مفتوحة ومن أهمها:

ــ ملف العسكريين المخطوفين: يقبع 26 عسكرياً لبنانياً منذ أغسطس/آب الماضي في الأسر في سجون جبهة النصرة و"داعش". يتحدّر هؤلاء من مختلف المناطق اللبنانية، ومعظمهم مسيحيون ومسلمون شيعة، ومسلمون دروز. وهو ما يُهدّد بحصول ردات فعل تأخذ طابعاً مذهبياً (ضدّ السنة) وعنصرياً ضد اللاجئين السوريين عبر تحميلهم المسؤوليّة. ولا يزال العسكريون بانتظار عمليّة التفاوض، للتوصل إلى مقايضة مقبولة لدى مختلف القوى، بهدف إطلاق سراحهم، بعد فشل عدّة وساطات، وتخبّط الطرف اللبناني نتيجة وجود صراعات داخليّة كبيرة، إن بين السياسيين أو بين الأجهزة الأمنيّة.
ــ اللاجئون السوريون: يعيش في لبنان نحو مليون ومائتي ألف لاجئ سوري، بحسب الأرقام الرسميّة. يتعرّض هؤلاء لاضطهاد وحملات اعتقال واعتداءات منظمة منذ معركة عرسال. ويتخوّف من بناء هؤلاء قوّة أمنيّة لمواجهة ما يتعرّضون له. لكنّ الأخطر، هو تراجع المساعدات التي تُقدمها الهيئات المانحة للمؤسّسات الدوليّة العاملة مع اللاجئين، وعلى رأسها برنامج الغذاء العالمي.
ــ الحدود: مع تصاعد ضربات التحالف الدولي على "داعش" في العراق وشرق سورية، يبدو أن التنظيم يتّجه صوب غرب سورية، وقد وصل إلى الحدود اللبنانيّة. وقد تحوّلت هذه الحدود إلى مناطق استنزاف شبه يومي، على الأقل بحسب بيانات الجيش اللبناني الذي يتحدث عن استهداف المسلحين وصدّ هجمات لهم بشكل دوري. لكن الأخطر هو الكمين الذي تعرّض له الجيش اللبناني عند الحدود اللبنانيّة السورية، في الجهة المقابلة لمشاريع القاع. وأخطر ما في هذا الملف، وصول مقاتلي "داعش" إلى الحدود اللبنانيّة- السورية خلال الأسابيع الأخيرة من عام 2014، وهو الأمر الذي يجعل الحدود تحت خطر الانفجار الدائم.
ــ الوضع الأمني: تراجعت العمليات الانتحاريّة في النصف الأخير من عام 2014 في لبنان، لكنها تبقى تحدّياً تسعى الأجهزة الأمنيّة الرسميّة وغير الرسميّة إلى مواجهته، بالاستعانة بالمعلومات الاستخباريّة الغربيّة، لكنّ هذا الأمر لا يُمكن إلغاؤه، خصوصاً مع وصول "داعش" إلى الحدود اللبنانية.

تحديات كثيرة سيعيشها لبنان عام 2015، الأمن على رأسها، لأن مشروع "داعش" إذا وصل إلى الداخل اللبناني، كما يرغب، فربما نشهد مرحلة تكون وحدة الكيان اللبناني فيها في خطر.

المساهمون