مصطفى دوزغونمان: هكذا تُرسم الغيوم

11 أكتوبر 2015
(من أعمال مصطفى دوزغونمان)
+ الخط -

في عام 1938، كان مصطفى دوزغونمان في الثامنة عشرة من عمره. حينها، انتهى من دراسته الثانوية، وبدأ يعمل مع أبيه في دكّان لبيع الأعشاب في أوسكودار في إسطنبول.

كان الفتى مأخوذاً بدباغة الجلد وصناعته، ما أثار انتباه قريبه، الخطاط التركي نجم الدين أوقياي، الذي لفتته مهارات دوزغونمان اليدوية؛ فسجّله في قسم فنون التزيين التركية في أكاديمية الفنون الجميلة، والتي كان أوقياي مدرّساً فيها.

هناك، اتّسعت معارف الشاب اليافع في فن صناعة الجلد، كما أنّه تعلّم ما يُعرف بـ"الإيبرو"؛ فن الرسم على المياه. في 12 أيلول/ سبتمبر الماضي، مرّ ربع قرن على رحيل دوزغونمان (1920 - 1990). مناسبةٌ انتهزها "مركز صفاكوي للثقافة والفنون" في إسطنبول، ليقيم معرضاً لأعمال الفنان بعنوان "عمرٌ ماضٍ على متن القارب"، يختتم غداً، الإثنين.

في عام 1940، وبسبب قسوة ظروفه المعيشية، اضطر دوزغونمان إلى ترك الدراسة، والعودة إلى العمل مع أبيه، لكنّ "الإيبرو" لم يفارقه. هكذا، استغلّ طبيعة عمله في الجلود، فأنتج قطعاً فنيةً في الجلد و"الإيبرو"، ثمّ حصر اهتمامه بالأخير فقط، فراح يرسم وروداً ويعرضها على أوقياي، الذي طوّر ما يُعرف بـ "إيبرو الورد".

في عام 1967، بدأ دوزغونمان بالمشاركة في المعارض الفنية، ليصبح، تدريجياً، أحد أعلام "الإيبرو"، حتّى أنّ اليافعين بدأوا يتوافدون إليه كي يتعلّموا منه هذا الفن، فخرّج فنّانين كثيرين أصبحوا لاحقاً معروفين في تركيا. من هؤلاء، تلميذه آلب أرسلان بابا أوغلو، الذي وصف مرّةً ولع أستاذه بهذه الفن قائلاً: "عند نفاد الورق، كان يجعل من ورق الصحف إيبرو".

لا يحتاج المتلقّي إلى جهدٍ كبير لاستنباط فن دوزغونمان، فهو سلسٌ يخلو من التعقيد، خصوصاً أنّ الفنان يتّخذ من إرثه مرجعاً لأعماله؛ إذ نجد نزوعاً صوفياً في بعض لوحاته، وكذلك تخطيطات لآيات قرانية. كان يتردّد دائماً إلى "مسجد عزيز محمود هودايي"، يؤذّن بالمصلّين أحياناً، ويردّد المقولات العرفانية، ويلقي الأشعار، من أبرزها "أيبرونامي" التي وصف من خلالها "الإيبرو".

هكذا، كان فهم الفنان التركي لطبيعة عمله، إذ كوّن نظرته تجاه "الإيبرو" من ثقافةٍ صوفية نشأ عليها منذ صغره، ما ينعكس على كثير من أعماله التي تُلاحظ فيها رشقات نارية لشعلات ملتهبة، وورود، وأشكال أخرى تتّسم بتجانسها وتناظرها.

يعود أصل "الإيبرو" إلى العصر السلجوقي؛ إذ استُخدم لتزيين وتلوين أغلفة الكتب والدفاتر، وكذلك في لوحات الخط العربي.

لاحقاً، في عهد حكم السلطان العثماني سليمان القانوني، تطوّر هذا الفن، بعد أن تعرّف الأوروبيون إليه، على إثر فتح القسطنطينية عام 1453. ينقسم "الإيبرو" إلى عدّة أنواع، اشتغل دوزغونمان على نوعين أساسيين منها، هما "بطّال إيبرو" (Battal Ebru) وإيبرو الورد (Çiçekli Ebru).

يُعدّ النوع الأول أقدم أنواع الإيبرو، واعتبره دوزغونمان "المدرسة الأولى للإيبرو"؛ لأنّه يحتاج إلى مهارات يدوية عالية، إذ لا يعتمد، كباقي الأنواع، على المثقب والفرشاة في رشق الدهان على اللوح.

أمّا بالنسبة إلى النوع الثاني، فقد عرف "الإيبرو" محاولات من فنّانين كثيرين لرسم الورد، لكن معظم التجارب لم تنجح لصعوبة رسم أشكال محدّدة على الماء. إلى أن استطاع نجم الدين أوقياي، عام 1918، رسم ورود متنوّعة كالزنبق والصفير والقرنفل بأشكالها الطبيعية.

بعدها، استطاع دوزغونمان أن يضيف عليها زهرة البابونج. في "أيبرو الورد"، يُستخدم أولاً الطلاء الأخضر، قطرةً قطرةً، لرسم ساق ومفصل الزهرة، ثم تدخل الألوان الأخرى لتغطية كامل الأجزاء المتبقيّة. بعدها، تُمَدُّ هذه الألوان وتُوزّع، من خلال المثقب، بشكلٍ مطاط، إلى أن يختار الفنان شكل الوردة التي يريد. عموماً، تبدو الألوان المستخدمة في هذا الإيبرو، غالباً، أغمق من ألوان الأنواع الأخرى.

في لوحات دوزغونمان، تتراءى الكثير من الأشكال للمتلقّي الذي يجد نفسه أمام متاهةٍ من الاحتمالات البصرية، فتارةً يبدو العمل وكأنّه أمواج بحر هادئ، وتارةً يبدو وكأنّه صخبٌ من الألوان المتداعية. أحياناً، تبدو الخلفيات في أعماله وكأنّها خلايا عصبية؛ إذ نرى أنفسنا أمام نسج دماغي تتفتّح فيه زهرات، هي كناية عن العقل المتفتّح والمُبصر، ولعلّ هذا ناتجٌ عن التجليّات الصوفية التي تأثّر بها الفنان.

ظلّ دوزغونمان، حتى رحيله، مواظباً على عمله وإنتاجه الفنيين، ومن أبرز من تتلمذ على يديه، إضافة إلى آلب أرسلان بابا أوغلو، فؤاد باشار ونياظي صاين. كما أنّه بقي وفياً لأستاذه، إذ قال يوماً: "إذا سألوني، أقول إنني، حتى الآن، مبتدئ. معلّمي نجم الدين".

المساهمون