مصر 2018: وعود وآمال تأكلها سبعٌ عِجاف

06 يناير 2019
(مسجد "الفتّاح العليم" في القاهرة، تصوير: محمد الشاهد)
+ الخط -

كان تعيين أوّل وزيرة ثقافة في مصر مُستهلَّ 2018 حدثاً تاريخياً. لعلَّ ما ضاعف أهميته هو سخط المجتمع الثقافي على الوزير السابق حلمي النمنم. وكان الرأي السائد أنه اصطفّ ضدّ مصالح المثقّفين مع السلطة القمعية في قضايا مثل سجن أحمد ناجي. لكن، ليس غريباً، بالنظر إلى هوية عازفة الفلوت والإدارية المخضرمة إيناس عبد الدايم، ألا يُحدِث تعيينها اختلافاً في مثل تلك الأمور.

الأكيد أن مجيء عبد الدايم لم يُسفِر عن تغيُّر في المشهد الثقافي. فكما جُدِّدَتْ الثقة في الرئيس بين نيسان/ أبريل وحزيران/ يونيو - ليس فقط بلا انتخابات جديّة لكن أيضاً بلا تعليق! - كذلك تواصلَت أجواء الركود والصمت داخل الدوائر الفنية والأدبية بلا حوار صادق أو مُراجعة جادّة لدور الثقافة في مواجهة بلدوزر الطائفية والعنف في المنطقة.

بالطبع بدا الصمت مضاعَفاً في ربوع الثقافة الرسمية، حيث المُمسكون بمقاليد الأمور مدينون للسلطة السياسية بولاء مُطْلَق. لكن حتى في الدوائر الأخرى، الأكثر حرية، بخلاف الإيماءات المعارِضة وسواها من "إنسانيات" لا تَصدُر - في ضوء ما حدث منذ 2011 - إلّا عن بُلَهَاء أو أفّاقين، لم يُقدِّم المجتمع الثقافي تَصَوُّراً عن مكانه، لا من المسار المحلّي في لحظة تَرَاجُع، ولا من وحش الاستهلاك المُعَولَم الزاحف علينا عازماً على تسليع ليس الأدب والفن وحدهما، ولكن حتى القيم والهوية والنضال.

من إعادة تشغيل مسارح وقصور ثقافة في الأقاليم إلى بروتوكلات تعاون مع السعودية - أدّت إلى مشهد "السوبرانو المحتشمة" في الرياض، والذي كان مَحَطّ تعليقات شبكات التواصل طوال أسابيع - لدى الوزارة قائمة طويلة من "مُنجَزات" إن لم تكن صورية فهي كسابقاتها منذ 2014، بلا تأثير محسوس في دوائر الفن والأدب، دعك من المجتمع الواسع. فما زالت مطبوعات "هيئة الكتاب" مكدّسة في المخازن، وما زالت مكاتب الوزارة مراتع للفساد والبيروقراطية بل والتطرف العقائدي الذي تسعى الدولة إلى محاربته.

لعلّ اللحظة الوحيدة الجديرة بالإشارة في مسار الثقافة الرسمية في 2018 هي قرار تدشين "الشركة القابضة للاستثمار في المجالات الثقافية والسينمائية"، في ما يُعَدّ أول تحرُّك صريح تجاه خصخصة الثقافة منذ تأميمها في الخمسينات. لكن، وحتى الآن على الأقل، لا يبدو أن الشركة المعنية أكثرُ من مبادرة إنتاج سينمائي لن تُفضي إلى شيء على الأرض. وبالقياس على نجاح الحكومة في فرض قبضتها على الفضائيات وتهميش الصحافة - دعك من حَجب مواقع الإنترنت على الطريقة الخليجية - فخصخصة الثقافة، وإن تحقّقت، لا يُمكن أن تُحرِّر الأنشطة والمواقف من ميراث الوصاية والتوجيه البادي في القطاع الخاص ربما أكثر من القطاع العام اليوم.

أما بالنسبة إلى الثقافة غير الرسمية، فكان أهم تجليات مُصادرة المجال العام في السنوات السبع الأخيرة هو الاستهداف غير المسبوق للمجتمع المدني من جانب السلطات الأمنية والقضائية، ما جعل أنشطة الثقافة البديلة تقتصر إلى حد بعيد على المؤسسات الملحقة بسفارات الدول الأجنبية. خلال 2018، تصاعد دور "معهد غوتة" الألماني بالذات في استضافة الندوات والفعاليات بل وتأسيس مبادرات مثل موقع "جيم" الجندري والذي تم حجبه بعد أشهر قليلة على إطلاقه.

ترك غياب المجتمع المدني عن المجال الثقافي فجوة واسعة؛ ما كان لوزارةٍ ترزح تحت شُحّ الموارد وغياب الكفاءة أن تقوى على سَدّها، بصرف النظر عن قيادتها. لكن لم يكن تأثير سعر الدولار وتخصيص جلّ الموارد لمشروعات عملاقة، إن لم تكن فاشلة فهي طويلة الأمد، أقلَّ وطأة على الحياة الثقافية. فقد شهد العام تراجعاً ملموساً ليس فقط في القدرة على شراء الكتب ولكن - وهذا الأهم - في استعداد دور النشر الخاصة لدعم الأدب الجاد أو الرأي الحر، أو فتح مجال لأي تجديد أو اختلاف في المتاح. فلعلّ النشر اقتصر في 2018 على المضمون والآمِن من روايات "بست سيلر" والأعمال الفضائحية "المناهضة للإرهاب" والاحتفالات بكرة القدم أكثر من أي وقت مضى.

منذ 2014، وقد أفضت مساعي الاستقرار الأمني المشروعة في بداياتها إلى سياسات اقتصادية وإعلامية من شأنها أن تُقلّص مساحة الإبداع والتفاعل الضيقة أصلاً في مجتمع تأخّرتْ فيه التنمية، وصَاحَبَ تأخُّرها انهيار في التعليم وانتشار مدعوم بسخاء للأصولية الدينية. هذا إضافة إلى ما في السنوات السبع الأخيرة من احتجاجات ومصارع وصعود ثم هبوط للقوى الإسلاموية… وهي أحداث باهظة التكلفة وزاخرة بوعود وآمال أثملت المثقّفين أكثر من غيرهم، لكنها - وهو ما يُسأل عنه المثقّفون أيضاً، حتى وإن بدا تأثيرهم على الواقع معدوماً - لم تُفضِ إلّا إلى نسخة أكثر تطرُّفاً من تركيبة السلطة التي اندلع الحراك احتجاجاً عليها في يناير 2011.

هكذا بات ما وَعَد به خروج "الإخوان المسلمين" من الحكم على طريق الحقوق المدنية والحريات الشخصية سنة 2013 محض مزحة. وبالنظر إلى ذلك وسواه من أحوال، يمكن القول إن الحدث التاريخي لا يُشير في الحقيقة إلى غير الإجراءات التجميلية والوقائية ذاتها التي ارتبطت بتفادي التغيير طوال ثلاثة عقود في "العهد البائد".

المساهمون