18 نوفمبر 2024
مصر والسد ومجلس الأمن
للمرة الثانية، تحاول مصر نقل ملف قضية سد النهضة الإثيوبي إلى مجلس الأمن. كانت الأولى مطلع شهر مايو/ أيار الماضي، حين أرسلت القاهرة خطاباً إلى المجلس، لإطلاعه على التعثر الذي تشهده المفاوضات، بسبب المماطلات الإثيوبية. ولعل القارئ يذكر أن كاتب هذه الزاوية توقع وقتئذ ألا تأتي محاولة القاهرة بأي مردود. وبالفعل، تعامل مجلس الأمن مع الأمر بتجاهل تام، كأن لا قضية مثارة ولا رسائل وصلت إليه بشأنها. حينها، بدت الخطوة المصرية غير متوقعة، خصوصا أنها لم تسع من قبل إلى أي دور للأمم المتحدة، إلا أن ما قامت به القاهرة قبل أيام ليس فقط أمراً غير متوقع، بل هو عجيب من دون مبالغة، فقد بعثت وزارة الخارجية المصرية مطلع الأسبوع الحالي خطابا ثانيا إلى مجلس الأمن، حول القضية نفسها. وبمراجعة نص الخطاب، يتضح أن القاهرة رفعت سقف مطالبها لدى مجلس الأمن، من مجرّد الإحاطة والاطلاع كما في الرسالة السابقة، إلى مطالبته بأن "يتدخل على وجه السرعة"، بعد أن استنفدت مصر "كل سبيل للتوصل إلى حل ودي لهذا الوضع". ولكن وجه العجب من التحرّك المصري ليس في استدعاء مجلس الأمن إلى التدخل من حيث المبدأ، كما أن استعجال مصر المجلس ضرورة التدخل سريعاً مفهوم في ظل ضيق الوقت المتبقي قبل الموعد الذي حدّدته إثيوبيا للبدء في ملء خزان سد النهضة، الأول من يوليو/ تموز المقبل، أي بعد أسبوع.
ما يدعو إلى الدهشة والتعجب في خطوة القاهرة أن ثمّة مطلبين محدّدين من توجهها السريع إلى مجلس الأمن واستعجالها له، الأول أن "ينظر المجلس في هذا الأمر على وجه السرعة في أقرب فرصة مُمكنة" ضمن جدول الأعمال الخاص بالسلم والأمن في أفريقيا. والثاني أن يتحرّك مجلس الأمن والمجتمع الدولي "ويحُثّا إثيوبيا على التحلي بالمسؤولية وإبرام اتفاق عادل ومتوازن بشأن سد النهضة مع عدم اتخاذ أي تدابير أحادية الجانب في ما يتعلق بالسد...". هذا هو سقف المطالب المصرية. ولذلك عادت القاهرة إلى مخاطبة مجلس الأمن مجدّداً بعد شهرين تقريباً من المرّة الأولى، وقبل أيام معدودة من شروع إثيوبيا في الملء الأول لبحيرة السد. هل هذا هو أقصى ما تطمح إليه القاهرة، أن يقوم المجلس بمهمة "حث" لكي تتحلّى أديس أبابا بالمسؤولية؟
لكن يبدو أن الإثارة والمرارة في إدارة مصر لهذا الملف المصيري لا تنتهي، فبينما سقف حركة مصر الخارجية بهذا الضيق والليونة، يشهد الخطاب الداخلي الرسمي والإعلامي تصاعداً غير مسبوق. ويتبنى المسؤولون ووسائل الإعلام المصرية لهجة حادّة وصارمة وعدائية ضد إثيوبيا. في ما يبدو حملة تعبئة جماهيرية منظّمة ومتعمدة في هذا التوقيت. والشحن المعنوي هنا مفهوم ومبرّر ومنطقي في ظل تجمد الموقف، وضغط عنصر الوقت، وتبجّح إثيوبيا، وصفاقة خطابها الرسمي. ولكن غير المفهوم أن اتجاه السلوك الفعلي لمصر وسقفه لا يعكسان أبداً هذا التصعيد الكلامي، بل يعاكسانه.
كان موقف القاهرة سيبدو أكثر واقعيةً وإقناعاً، لو دعت، مثلاً، كلا من جامعة الدول العربية والاتحاد الأفريقي إلى قمة طارئة لبحث الموقف. والانتقال بعدها إلى مجلس الأمن، ودعوته إلى الانعقاد، مع تحميل الدول الكبرى مسؤوليتها تجاه استقرار منطقة حيوية من العالم. والتوجه بصفة عاجلة إلى محكمة العدل الدولية ومجلس المياه العالمي، لاستصدار مواقف لها حجية قانونية وسياسية وفنية في مواجهة إثيوبيا. ولكن أن تعود مصر إلى مجلس الأمن كما لو كانت تسجل موقفا وفقط، فهذا ما يستعصي على الفهم ويصعب تبريره. ومن يدري، فربما يكون عدم الفهم أهون من التفسير.
لكن يبدو أن الإثارة والمرارة في إدارة مصر لهذا الملف المصيري لا تنتهي، فبينما سقف حركة مصر الخارجية بهذا الضيق والليونة، يشهد الخطاب الداخلي الرسمي والإعلامي تصاعداً غير مسبوق. ويتبنى المسؤولون ووسائل الإعلام المصرية لهجة حادّة وصارمة وعدائية ضد إثيوبيا. في ما يبدو حملة تعبئة جماهيرية منظّمة ومتعمدة في هذا التوقيت. والشحن المعنوي هنا مفهوم ومبرّر ومنطقي في ظل تجمد الموقف، وضغط عنصر الوقت، وتبجّح إثيوبيا، وصفاقة خطابها الرسمي. ولكن غير المفهوم أن اتجاه السلوك الفعلي لمصر وسقفه لا يعكسان أبداً هذا التصعيد الكلامي، بل يعاكسانه.
كان موقف القاهرة سيبدو أكثر واقعيةً وإقناعاً، لو دعت، مثلاً، كلا من جامعة الدول العربية والاتحاد الأفريقي إلى قمة طارئة لبحث الموقف. والانتقال بعدها إلى مجلس الأمن، ودعوته إلى الانعقاد، مع تحميل الدول الكبرى مسؤوليتها تجاه استقرار منطقة حيوية من العالم. والتوجه بصفة عاجلة إلى محكمة العدل الدولية ومجلس المياه العالمي، لاستصدار مواقف لها حجية قانونية وسياسية وفنية في مواجهة إثيوبيا. ولكن أن تعود مصر إلى مجلس الأمن كما لو كانت تسجل موقفا وفقط، فهذا ما يستعصي على الفهم ويصعب تبريره. ومن يدري، فربما يكون عدم الفهم أهون من التفسير.