مصر... مشنقة تهدد رقبة الديمقراطية

23 مايو 2015
+ الخط -
يبدو القاضي المصري في أحكام الإعدام العشوائية بالمئات التي يلفظها في كل فينة وكأنه يوزع أقراص حلوى على ضيوف حفل زفاف. لكل مدعو حصته من كرم المضيف، ولا استثناءات. من غير المهم، ولا من الضروري، أن يكون لدى القاضي دليل كاف أنّ المتهم ارتكب جرماً ما، أو أنه حتى لا يزال على قيد الحياة. من غير المهم، ولا الضروري، أن يتفحص دفوع الدفاع، بما يشكل أبسط حقوق الإنسان وأكثرها بدهية. ليس على القاضي النزيه أن يتحرّى عما إذا كان المتهم قادراً منطقياً على ارتكاب الجريمة، أو المشاركة فيها، كأن يكون هو نفسه قيد الاحتجاز لدى الشرطة، حين وقوعها بما ينفي الحاجة إلى دليل على براءة المتهم الواضحة. كل هذه ليست مهمة أمام شهوة القاضي الجارفة لإنزال أحكام الإعدام بمن لا يطيق وجودهم على سطح الأرض، ولا حرج لديه إذا ما تم استخدامه وسيلة ناجعة للقضاء عليهم نهائيا. 
ولعل كاريكاتورية أحكام الإعدام التي يغدقها القاضي المصري بالمئات قد تجعلنا نتخيل سيناريوهات أكثر هزلية، كأن يغضب القاضي من أحد المتهمين أو ممثليه، فيصرخ في وجهه "طب روح إعدام بقا"... تتوج الكوميديا السوداء التي يفاجئنا بها القضاء المصري كل يوم هزال السياسة، وتراجع أخلاقياتها وافتقارها لأي منطق، كأن يصرح وزير عدل بأن ابن عامل النظافة لا يصلح لسلك القضاء، وأن يقول وزير آخر أن لا بطالة في البلاد، وأن الاطفال العاملين يحققون رواتب عالية، متباهيا بعمالة الأطفال بعيداً عن صفوف الدراسة، وأن يصرح قاض لبرنامج "توك شو" بأن من يحرق صورة قاض "سوف نحرق قلبه"، وأن القضاة "هم الأسياد وغيرنا العبيد"، فيتم تعيينه لاحقاً وزيرا للعدل، وأن يخرج رئيس مركز لـ"البحوث" ليطلب من الحكومة أن تعتمد خطة غير مسبوقة في مكافحة الإرهاب، كأن تقدم وظيفة لكل من يشي بـ"إرهابي". في الوقت نفسه، تتواصل "المؤامرة" الدولية على البلاد فيدين تقرير جديد للفدرالية الدولية لحقوق الإنسان تزايد استخدام العنف الجنسي على يد قوات الأمن المصرية سلاحاً للعقاب وللردع وبشكل منتظم. 
لا يثير ذلك كله أي ردة فعل غاضبة، أو حتى مستفسرة لدى وسائل الإعلام الوطنية وجمهورها العريض الذي بات يتغذى على ثقافة العنف وشهوة الانتقام التي تبثها هذه الشاشات، شامتة بالضحايا، مبررة الانتهاكات، أو نافية إياها باعتبارها جزءاً من المؤامرة الدولية على البلاد. لم يثر القصور القانوني الفاضح في أحكام الإعدام بالجملة إلى جانب لا أخلاقية العقوبة ولا إنسانيتها، أي سؤال، بما في ذلك لدى وسائل الإعلام التي كانت قبل أسابيع تنشر تقارير عريضة عن انتهاكات الشرطة والتعذيب في السجون تحت عنوان المهنية. لم تصل المهنية إلى حد تناول أحكام قضاء، فاضحة في لاعدالتها، ما دامت هذه الأحكام تطاول الخصوم السياسيين المرغوب بالقضاء عليهم.

في السنوات التي تلت الثورات العربية، تراجعت سطوة سلاح الأمن في الترهيب، وبرز دور القضاء سلاحاً ماضياً في يد الثورات المضادة، عبر استحضار كل ذخائر القمع من العهود البائدة وتعزيزها كإنزال عقوبات السجن، أو الغرامات المرتفعة، استنادا إلى مواد قانونية، مطاطة في نصها يسهل تطبيقها اعتباطاً، في مقدمتها تهديد الأمن القومي، وإهانة شخص الرئيس، والتقليل من احترام القوات المسلحة، وإهانة الأديان، والإضرار بالنظام العام، وما إلى ذلك من أسلحة استخدمتها الأنظمة لقمع الاختلاف السياسي، والنقد لأدائها. وتشكل استعادة قوانين مكافحة الإرهاب، بشكلها القمعي، بابا واسعا لمزيد من القضاء على التنوع السياسي والإعلامي القليل الذي حققته الثورات، عبر العودة إلى المحاكمات العسكرية التي تفتقر للحد الأدنى من مقومات العدالة والتوقيف مدداً طويلة بدون محاكمة، وغيرها من أشكال الاستخدام التعسفي للقضاء. ولعل قانون زجز الاعتداء على القوات المسلحة المثير للجدل في تونس أحد أشكال الابتكارات الحديثة في استخدام القضاء لقمع النقد، كإنزال عقوبة السجن عامين بكل من "تعمد تحقيرالقوات المسلحة بقصد الإضرار بالأمن العام"، بما في ذلك مطاطية تسمح باستخدام النص جزافا واعتباطاً، لإسكات أي صوت ناقد، بحجة عدم الإضرار بمعنويات القوات المسلحة في حربها ضد الإرهابيين.
ليس تسييس القضاء جديداً على العالم العربي، إذ غالبا ما تعمد "العدالة" على الطريقة العربية إلى تفصيل الحكم بحسب الظروف المجتمعية والسياسية، فيخرج مخطط لعمليات قتل بعقوبة سارق قن دجاج، في حين ينال متظاهر من أجل حقوق رئيسية عقوبة سنوات مديدة بالسجن لـ"خطره" على المجتمع، إلا أن أحداً لا يستطيع أن يبارز القاضي المصري في قدرته على الاستخفاف ببدهيات دوره، متحولاً إلى لاعب سياسي بكل معنى الكلمة، يصدر الحكم "كما يطلبه المستمعون"، ولو كان ما يطلبه هؤلاء مشهدا دموياً لأعواد مشانق على مد النظر. هكذا يرتاح النظام وإعلامه ومريدوه للقضاء نهائيا على خصومهم، وينتظر من بقي من المعسكر المقابل فرصة جديدة لتجربة ديمقراطية بإمكانها أن تصمد أكثر من عام.
A6CF6800-10AF-438C-B5B5-D519819C2804
فاطمة العيساوي

أستاذة لبنانية في جامعة إيسيكس البريطانية. ترأست بحثا في تأثير عملية الانتقال السياسي على الإعلام المحلي في دول الثورات العربية. صحافية مستقلة ومدربة وخبيرة في التشريعات الاعلامية في العالم العربي.