مصر تستعيد جهاز مبارك: ملفات المعارضة بيد أمن الدولة

01 مايو 2016
تمكّن جهاز أمن الدولة من قمع التظاهرات الأخيرة(العربي الجديد)
+ الخط -
تؤكد الأحداث اﻷخيرة التي شهدتها مصر، اﻷسبوع الماضي، أن جهاز اﻷمن الوطني (أمن الدولة سابقاً) استرجع بعضاً من عافيته وسلطاته التي كان يتمتع بها في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك قبل ثورة يناير/كانون الثاني 2011، وخصوصاً حرية الحركة في ملفَي الشباب والتيارات السياسية المعارضة، على الرغم ممّا واجهه هذا الجهاز من تهميش منذ بداية عهد الرئيس الحالي عبدالفتاح السيسي، وتغييرات على مستوى القيادة وفق خطة مساعد السيسي للأمن، الوزير اﻷسبق أحمد جمال الدين.

وعلى الرغم من استبعاد الجهاز من الدائرة المخابراتية ـ الرقابية التي شكلها السيسي لإدارة المشهد السياسي المصري والتي يديرها فعلياً مدير مكتبه عباس كامل، تمكن جهاز اﻷمن الوطني من استعادة نفوذه من خلال امتلاكه كوادر أكثر خبرة من تلك التي تخص جهاز المخابرات في التعامل مع التظاهرات، ودعوات الحشد، والتنظيمات المعارضة. كما استطاع استجماع خيوط اللعبة مرة أخرى في ما يتعلق بالتعامل مع المعارضة عموماً والشباب خصوصاً.

منذ 2011 وحتى 2013، تعرضت سلطات جهاز أمن الدولة للتآكل بصورة مطردة، وتحديداً منذ اقتحام المتظاهرين الغاضبين مقرّه الرئيسي المحصّن في ضاحية مدينة نصر بالقاهرة، تحت نظر ومتابعة قوات الشرطة العسكرية التي وقفت تنتظر جرد المتظاهرين للمقر وإخلاءه من معظم وثائقه المهمة. وتبين آنذاك أن إدارة الجهاز علمت بالاقتحام قبل حدوثه، فتخلّصت بالحرق والتقطيع من وثائق أخرى وشرائط أكثر أهمية.

كان الجهاز في عهد مبارك صاحب اليد الطولى في كل ما له علاقة بالتأمين والتعامل مع المعارضة، والمجتمع المدني، والقضاء، والجيش، واﻹعلام، وحتى الجهات الدبلوماسية. كان أفراده من ضباط ومسؤولي اﻻتصال منتشرين في جميع أجهزة الدولة تقريباً، وفي أروقة السلطة التنفيذية بمختلف هيئاتها. وكانت تقارير الجهاز هي المرجع اﻷساسي للقرارات الرئاسية وحتى السياسات اﻻقتصادية والوظيفية. كما كان الجهاز يملك صلاحية تسجيل المحادثات الهاتفية سراً، ويتدخل في عمل جهات أخرى كالرقابة اﻹدارية والنيابة اﻹدارية، ولم يكن ممكناً تحريك دعاوى أو بلاغات ضد أي مسؤول من دون إذن الجهاز، الذي كان مدعوماً بقوة من وزير الداخلية، الأسبق حبيب العادلي.

عقب اﻻقتحام، أصدر وزير الداخلية آنذاك منصور العيسوي والذي لم يكن ينتمي للجهاز، قراراً بحلّه وإعادة تشكيله تحت اسم "اﻷمن الوطني". ظنّ البعض أن القرار صوري ولن يمس إلّا الاسم، غير أنه في الحقيقة تضمن إحالة معظم ضباط وأفراد اﻻتصال القائمين على مراقبة الجهات الحيوية وملفات السياسة بالدولة إلى وظائف مكتبية وأقل أهمية، وتم تقليص صلاحيات الجهاز واتصاﻻته مع وسائل اﻹعلام والقضاء.


في تلك الفترة التي كان يحكم فيها المجلس اﻷعلى للقوات المسلحة البلاد، صعد نجم جهاز المخابرات الحربية الذي كان يقوده الرئيس الحالي عبدالفتاح السيسي. وبدأ في التغلغل داخل أروقة الدولة وأداء بعض الصلاحيات السابقة لأمن الدولة، وملء الفراغ الذي تركه الجهاز الأمني، باعتبار أن جهات عديدة داخل الدولة ﻻ يمكنها التحرك إلا بتعليمات عليا وتوجيهات تنتقل دائماً من خلال وسيط، وكان أمن الدولة يؤدي دور الوسيط حتى 2011.

ووفقاً لحديث بعض المصادر اﻷمنية، فإن إبعاد أمن الدولة عن بعض الملفات وإقحام المخابرات الحربية فيها، بما في ذلك الملف السياسي والعلاقات باﻷحزاب، كان قائماً على رؤية رئيس المجلس اﻷعلى للقوات المسلحة آنذاك، المشير حسين طنطاوي، ومفادها أن جهاز أمن الدولة والمخابرات العامة في عهد منافسه اللدود عمر سليمان هما المسؤوﻻن بتقديراتهما الخاطئة وتصرفاتهما المستفزة عن الحراك الشعبي العارم في يناير/ كانون الثاني 2011. كما تضمنت رؤية طنطاوي أنّ تأمين العهد الجديد يتطلب إزاحة هذين الجهازين لمصلحة جهاز آخر موثوق فيه تابع للجيش.

وتؤكد المصادر ذاتها لـ"العربي الجديد" أنّ السيسي كان يشارك طنطاوي هذه الرؤية، فقام بنفسه بخطة ملء فراغ أمن الدولة والمخابرات بعد عمر سليمان بالمخابرات الحربية. واستمر الوضع على ما هو عليه حتى نجح السيسي في الوصول لمنصب وزير الدفاع ثم اﻹطاحة بجماعة "اﻹخوان المسلمين" من الحكم.

عام 2014، بدأ السيسي الذي أصبح قاب قوسين من تولي رئاسة الجمهورية في التفكير بكيفية إدارة الدولة من أسفل، وفي القناة الوسيطة التي ستتمكن من التوغل داخل أروقة السلطات لتوصيل تعليماته وتوجيهاته ومعرفة كل ما يحدث. من هنا، جاءت فكرة تشكيل دائرته الخاصة المكوّنة من عناصر مخابرات حربية سابقة نقلها باطراد إلى المخابرات العامة للسيطرة عليها وكذلك لجهاز الرقابة اﻹدارية للسيطرة عليه وتفعيل صلاحياته المهملة، باﻹضافة لتعيين عناصر موثوق بها سبق لها العمل بالجيش في المواقع الرئيسية بالجهات الحكومية.

كان السيسي حاسماً من البداية باستبعاد جهاز اﻷمن الوطني من المعادلة، غير أن كثرة اﻷعباء اﻷمنية وفشل دائرته في الوصول لكواليس العديد من أحداث العنف التي شهدتها البلاد بين عامي 2013 و2015، أكدت له الحاجة الماسة لخبرات جهاز اﻷمن الوطني مرة أخرى، بعدما كان دور الجهاز بين عامي 2013 و2015 مقتصراً على إعداد التحريات (المكتبية في أغلبها) عما يوصف في مصر بجماعات العنف والمجموعات المعارضة الجديدة للنظام.
ودفع ذلك بالسيسي إلى توجيه مساعده أحمد جمال الدين لتطبيق خطة تحديث لعمل وهيكل الجهاز وتغيير قيادته. وتم ذلك بالفعل أكثر من مرة خلال العام الماضي، كما كان هذا اﻻهتمام هو الدافع ﻻختيار وزير الداخلية الحالي مجدي عبدالغفار الذي عمل لسنوات طويلة كقيادي بالجهاز في ظل الوزيرَين السابقين حبيب العادلي وحسن اﻷلفي.

اﻷسبوع الماضي، دخل عناصر اﻷمن الوطني المحسوبون على قيادات سابقة في صراعات داخلية مع عناصر أخرى بالجهاز، ودوائر أخرى بالنظام، وشهدت الكواليس محاوﻻت متبادلة لفرض نمط معين من السياسات اﻷمنية، لكن الكلمة اﻷخيرة كانت في اﻷغلب لصالح دائرة السيسي. لكن نقطة التحول جاءت، أخيراً، بمواجهة النظام خطر قيام أكبر تظاهرات ضد سياساته بعد اتفاقية مصر والسعودية في ما يخصّ جزيرَتي تيران وصنافير، إذ وجد النظام دائرته، على الرغم مما تتمتع به من أدوات إعلامية وأمنية، غير قادرة على كبح جماح الغضب الشعبي، فكان عليه أن يترك المجال لجهاز اﻷمن الوطني لمباشرة بعض المهام التي كان يزاولها دائماً في عهد مبارك.

كشفت الخطة الجديدة التي واجه بها اﻷمن التظاهرات بوأدها من جذورها، واستهداف الشباب في المراحل الثانوية والجامعية، وجود رؤية أمنية جديدة على نظام السيسي، بعيدة عن محاوﻻت تحسين صورة النظام والتشدق بالشعارات كما تفعل الأدوات اﻹعلامية للدائرة المخابراتية ـ الرقابية.

في هذا السياق، يقول مصدر أمني رفيع المستوى لـ"العربي الجديد" إن "السيسي تعرض ﻹحراج بالغ وانخفاض ملحوظ في شعبيته بعدما جاءت تصرفات اﻷمن مع المتظاهرين مناقضة لبيان أصدرته رئاسة الجمهورية تكذيباً لخبر نشرته إحدى وسائل اﻹعلام عن اﻻستعدادات لتظاهرة اﻻثنين الماضي 25 إبريل/ نيسان، إﻻّ أن السيسي لم يستطع فعل شيء إزاء من أحرجوه، ﻷنه يعلم أنهم فقط من يستطيعون الدفاع عن النظام". ويضيف المصدر أنّ "السيسي أصبح مدركاً أكثر من أي وقت مضى أهمية اﻻعتماد على جهاز اﻷمن الوطني مرة أخرى في مواجهة المعارضة، ﻷن الأخيرة أصبحت أكثر تنوعاً وتغيّرت خريطتها لتشمل نسبة ﻻ يمكن تجاهلها من الشباب دون العشرين، ودائرته ﻻ تستطيع التعامل مع هذه الفئات"، على حدّ تعبيره.

ويبدو استهداف الشباب وتقديم أعداد كبيرة منهم للمحاكمات بدءا من أمس السبت بتهمة التظاهر، أمراً مناقضاً ﻹعلان السيسي 2016 "عاماً للشباب". لكن جهاز أمن الدولة ﻻ يعطي أهمية لهذه الشعارات السياسية والبرامج التدريبية التي تحاول دائرة السيسي من خلالها امتصاص غضب المجتمع وخلق جيل جديد من المسؤولين الصغار السن الموالين للنظام، وفقاً للمصدر. ويلفت هذا المصدر إلى أنّه "يمكن توصيف عودة أمن الدولة القوية اﻵن بأنّ الجهاز سيكون ذراع النظام المسؤول عن المواجهات العنيفة، وتبقى الدائرة المخابراتية ـ الرقابية مسؤولة عن مسار تجميل صورة النظام".

تطرح هذه الرؤية تساؤلات عن إمكانية احتدام صراع بين الدائرتين، وذلك كله في إطار محاولة خدمة النظام والتقرب من السيسي. في هذا الصدد، يقول مصدر حكومي ذو خلفية أمنية إنّ "هناك صراع سياسات بالفعل، فاﻷمن الوطني سبق وأحرج دائرة السيسي أكثر من مرة بعرقلة خطوات تجميلية وعدت بها، كاﻹفراج عن دفعات أكثر من الشباب المحبوسين. كما أن اﻷمن الوطني متمكن من اختراق الأوساط القضائية ويعرف جيداً كيف يؤثر على قرارات النيابة العامة بحبس الشباب وتقديمهم للمحاكمات ﻷن القانون ونظام العمل بالشرطة يعقدان للجهاز وحده سلطة إعداد التحريات"، وفقاً للمصدر الحكومي.

ويرى المصدر أنّه "على الرغم من استرداد جهاز أمن الدولة السيطرة على الملف اﻷمني ومواجهة المعارضة، وامتلاكه حرية الحركة فيهما بما يمكّنه من تحديد الفئات والتيارات المستهدفة، لا يزال بعيداً جداً عن دوره السابق في توجيه سياسات الدولة ككل، نظراً لاختفاء دور ضباط اﻻتصال التابعين له في أجهزة الدولة، مقابل تعيين عدد كبير من ضباط الجيش السابقين بالمخابرات العامة والحربية والرقابة اﻹداربة في مواقع بارزة بجميع الأجهزة الحكومية تقريياً".

وعلى الرغم مما سببته ممارسات الشرطة عموماً واﻷمن الوطني خصوصاً من إحراج للسيسي وانخفاض في شعبيته على خلفية وقائع قتل المواطنين وحاﻻت اﻻختفاء القسري والتعذيب، يبدو الرجل مصراً على مغازلة الشرطة حفاظاً على التوازن داخل نظامه، وخوفاً من انقلاب أي طرف عليه، وفقاً للمصدر الحكومي. ويضيف أنّ السيسي ﻻ يفوّت مناسبة تكون الداخلية طرفاً فيها من دون أن يشيد بتضحيات الشرطة وأفرادها ودورها في مواجهة المؤامرات التي تحاك لمؤسسات الدولة، على حد تعبيره. وتعبر هذه السياسة، وفقاً لمراقبين محليين، عن محاولة السيسي إعادة توليد الجانب الأكثر تشدداً من السياسات اﻷمنية في عهد مبارك، معتقداً أنّ ذلك سيغلق أي مجال للأصوات المعارضة ويضعف فرص أي ثورة محتملة ضد النظام.

المساهمون