مصريون أيضاً تحت التعذيب

14 فبراير 2016
+ الخط -
كتب طالب الدكتوراه الإيطالي جوليو ريجيني، في آخر مقال له لصحيفة "المانيفستو" الإيطالية، عن مصر أخرى تقاوم القمع. كتب عن حركةٍ نقابيةٍ ناشطة، على الرغم من أشكال التقنين العديدة التي يفرضها النظام العسكري لكبت تعبيرات المجتمع المدني. لا تشبه مصر جوليو ريجيني الصورة بالأسود والأبيض التي يحاول الإعلام والنظام، يداً بيد، تسويقها عن صراع "الوطنيين" مقابل "الأشرار" من المصريين وغيرهم من "الجواسيس" الأجانب، المندسين في الشأن المصري. هل أزعج عمل جوليو ريجيني البحثي النظام إلى هذا الحد؟
الطالب الإيطالي الشاب الجميل من مجموعة من باحثين غربيين كتبوا وقادوا أبحاثاً في حب مصر، عجقتها، حاراتها، ناسها، حيويتها الداخلية القادرة على أن تفرز ديناميكيات جديدة، حتى في أسوأ الظروف، وظروف أبحاث ريجيني هي، بالتأكيد، الأسوأ على الإطلاق. حسب ما كتبت "المانيفستو" في رثاء طالب جامعة كامبردج البريطانية، مطالبة بكشف الحقيقة عن موته. كان الشاب خائفاً ومتردداً عن الكتابة. اختفى، في ذكرى الثورة المصرية، في 25 يناير/ كانون الثاني المنصرم، والتي شهدت إجراءات غير مسبوقة من القمع، منها عمليات اعتقال اعتباطية واسعة، واختفاء قسري لمواطنين خرجوا ولم يعودوا. على الرغم من آثار التعذيب "غير المسبوقة" على جثته، والتي وصفتها السلطات الإيطالية بـ"الحيوانية"، لجأت السلطات المصرية إلى محاولات التعمية، لتقول، أولاً، إنه قضى في حادث سيارة، وليشن إعلامها حملة تشويه لسمعة الباحث، بالإيحاء أنه كان يقيم علاقات غريبة. لم يكن موت ريجيني عابراً، ولعل بعضاً من التعزية لعمله التوثيقي الجاد في حب مصر أن موته أثار ضجة إعلامية كبيرة، فتحت الأعين أخيرا، ولو على استحياء، على جرائم يومية، تحصد مصريين عاديين، لا يحظون بفرصة الحدث الإعلامي، ويكتفى بتسجيل موتهم في خانة الحدث الفردي العابر.
في داخل السجون وخارجها، تنحسر القدرة على التنفس إلى درجة المجازفة. أخبار الاعتقالات، الملاحقات، المنع من النشر، المنع من التعبير، التوقيف الاعتباطي، التعذيب، القتل، الاختفاء القسري وغيرها وغيرها، باتت تشكل أخباراً معتادةً، لا تفاجئ على تكرارها وتعميمها. لم نعد نتوقع أمراً مختلفاً. الأشد خطراً من هذه الانتهاكات، بحد ذاتها، هو العتمة التي ترافق قصص ضحاياها، وكأن معاناتهم أمر عادي في يوميات القمع. اعتبرت رابطات أكاديمية غربية، منها جمعية دراسات الشرق الأوسط الأميركية، أن مقتل جوليو ريجيني يشكل مؤشراً خطيراً للتوغل في قمع البحث الأكاديمي على يد النظام، بعدما كان القمع مستهدفاً بشكل خاص العمل الصحافي المستقل. إلا أن استهداف العمل البحثي الصحافي، أو الأكاديمي، لم يبدأ مع مقتل الطالب الإيطالي، بل أنه ماض على قدم وساق. على سبيل المثال، باتت غالبية الأصوات الجادة المستقلة المصرية ترفض المشاركة في ندوات في الخارج، خوفاً من وصمها بـ"العميلة"، في حال ما لم تكن أساساً ممنوعة من السفر. وكان الحقوقي المصري، جمال عيد، منع أخيراً من السفر من دون أن يبلغ السبب. وعيد من الأصوات القليلة التي لا تزال توثق من داخل مصر الانتهاكات الجسمية لحقوق الإنسان والحريات، وهو أيضاً من الأصوات القليلة من الداخل القادرة على نقل صورة مختلفة إلى الخارج، عبر العمل التوثيقي للشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان التي يديرها. وكانت منظمة هيومان رايتس ووتش قد أحصت 32 حالة منع من السفر ومصادرة جوازات سفر لحقوقيين وصحافيين وناشطين ومواطنين عاديين.
أثارت المعلومات حول التعذيب الوحشي والموت البطيء للباحث الإيطالي الصدمة والرعب لما
آلت إليه دولة اللاقانون في مصر. في العرف العام، لا تطاول عمليات التعذيب عادةً سوى أبناء البلد ممن لا يترك موتهم تحت تأثير التعذيب، أو حتى اختفائهم، أي أثر سوى سطور بسيطة في بيانات مجموعات حقوق الإنسان. ارتفعت أصوات تقول إن التحقيق لا يزال جارياً في مقتل ريجيني، إلا أن أوجه التشابه بين خطفه وتعذيبه وعشرات الحالات من الاختفاء القسري في سجون سرية والموت تحت التعذيب تشي بالجواب. لا يقدم الجهاز القضائي المصري أي ضمانات استقلالية ومهنية للوثوق بأي رواية رسمية لمقتل ريجيني، وهي رواية لا تضطر الأجهزة حتى إلى تقديمها، في حال كان القتل قد استهدف مواطنين عاديين من المصنفين في خانة "الأشرار".
دعت عريضة لأكاديميين من كل أنحاء العالم تبنتها صحيفة الغارديان البريطانية إلى التنديد بكل أشكال القمع التي يتعرض لها باحثون مصريون وأجانب على حد سواء، بما في ذلك حالات الاختفاء القسري. قائمة ضحايا اللاقانون "المحليين" طويلة، ولا مجال لحصرها. نال الطالب عبد الرحمن الجندي (18 عاما) حكما بالسجن 15 عاماً، ويكتب من السجن عن "اليسر" مع "العسر". أبلغ الفتى مازن حمزة والدته، لدى زيارتها السجن، أنه يفضل الموت
من الجوع في إضراب عن الطعام، عوضا عن الموت تحت الضرب والتعذيب. نقل موقع "الحرية للجدعان" أن الأمن اعتقل 20 طالباً من منازلهم في الإسكندرية، وظهر منهم ثلاثة "في حالة صحية حرجة جداً من وطأة التعذيب". المصور الصحافي المعتقل من دون محاكمة شوكان يواجه خطر الموت، وهو موقوف في ظروف غير إنسانية. الناشطة آية حجازي العاملة في مجال تأهيل أطفال الشوارع عبر مؤسسة بلادي في السجن الاحتياطي منذ عامين، من دون محاكمة. رصدت المفوضية المصرية للحقوق والحريات 340 حالة اختفاء قسري بين شهري أغسطس/ آب ونوفمبر/ تشرين الثاني العام الماضي، بمعدل ثلاث حالات اختفاء يوميا. أمضى الشاب إسلام خليل 122 يوما في مركز اعتقال سري تحت التعذيب، في حين كانت عائلته تجهل مصيره، بحسب تحقيق لصحيفة فايننشال تايمز البريطانية. "معتقل التيشيرت" الطفل محمود محمد أحمد أمضى 550 يوما في السجن الاحتياطي حتى يومه، لارتدائه تيشيرت تحمل شعار "وطن بلا تعذيب". الطبيب أحمد سعيد المقيم في ألمانيا اعتقل خلال إجازة في مصر، ونال عامين من السجن الاحتياطي حتى يومه.
تلك قائمة عشوائية فحسب للجرائم اليومية التي يتعرض لها مصريون، مواطنون محليون من غير الأجانب، ممن لا تجتذب معاناتهم اهتماماً إعلامياً يذكر. يصعب إحصاء الأعداد والأشكال المتكاثرة للهجمة الشرسة على ما تبقى من أنفاس "الربيع" الذي احتفلت به مصر قبل خمسة أعوام. يكتب ناشطون على صفحات "فيسبوك" ومواقع التواصل الاجتماعي عن الرعب الذي يصيبهم، كلما سمعوا قرعاً غير معتاد لأبواب منازلهم ليلا. "لقد جاؤوا" يقولون، وهم في اللاوعي، ينتظرون هذه اللحظة الرهيبة. ينام غيرهم نوم أهل الكهف مطمئناً إلى أن جرائم النظام لن تدخل مخادعهم. غداً فجر جديد.

A6CF6800-10AF-438C-B5B5-D519819C2804
فاطمة العيساوي

أستاذة لبنانية في جامعة إيسيكس البريطانية. ترأست بحثا في تأثير عملية الانتقال السياسي على الإعلام المحلي في دول الثورات العربية. صحافية مستقلة ومدربة وخبيرة في التشريعات الاعلامية في العالم العربي.