مشرب صغير للصّدف

18 يوليو 2020
(علي الزنايدي/ تونس)
+ الخط -

حبّة حب

شتاء.

"ورد أقلّ".

باب الفؤاد مخلّع، ولا شاعر على العتبة يبيع حطباً للمدافئ الباردة أو ناياً لقصّ الأثر.

سفحت الحرب الغاباتِ لحرق جثث المستقبل.

تنهض ياسمين عن المجاز المرتعش، تَقُدُّ من وَتَد القصيد ناياً يجمّع المشردين إلى المخيّم الجديد، وتُسمّد بِرماد الجثث تُراب الأصص حيث تنام بذور النباتات الصّغيرة بانتظار آذار.

تضيء ياسمين، تبيضّ ضحكتها. 

نوّارة حبّ، ها هنا، تمرّدت على سُنن الفصول، وقبل الأوان، تورّدت.

■ ■ ■

عُلب الحرية

"قالوا مشت... "

وتلبّك هذا الحقل أيضاً، لكن ليس من ولَه النّرجس بصورته على ماء الكلام. يسري الصّرير في مجاريه الخضر بالرّعاش، وسيقان قمحه تتكسّر.

قافلة من جراد جثمت على صدره هذا الصّباح، وانتشرت، في نهَم، تجني مواسمه المثمرة. لمّا اكتفت أراحت على الغصون الجرداء تتّخذ منها معازف للغناء.

تهاوى اللّيل على السّقوف الفقيرة فاستبشر الجياع يوقدون نيران الولائم في أرجاء الحقل كافّة، يدورون حولها راقصين، شاربين نخب الشّبع العزيز، مقزقزين حبّات الجراد المشويّة. بينما أمضى الأعيان والشّباع الليلة على الأرائك الوثيرة متقابلين، باسطين إلى السّماء أكفّ الدّعاء، وعلى الطّاولات خرائط ومَقاصُّ لإعادة توزيع الحقول الباقية وما نجا من الثّروات.

لم يكتمل نضج الصّباح التالي، حتى كان كلّ الجياع الذين تخموا من أكل الجراد المشويّ يصطفّون أمام صناديق الاقتراع. اليوم يختارون بمنتهى الحريّة من يُفاوض باسمهم الجرادَ من ذوي الأكفّ الباذخة المبسوطة، ومهندسي الأراضي ظاهرِها وباطنِها، والجُباة، وبعض المستقلّين.

وكان الحقل المتلبّك يضمّد جراحه بنفسه المرّوعة، ويجبر كسور عظامه بضمائد من طينه، ويُشرع صدره للمطافئ الأجنبيّة هبّت فجراً تطفئ حرائق الشّواء.

■ ■ ■

حادث مرور

مقهى عمومي للعبور، والوقت مشرب صغير للصّدف يرتاده المسافرون بلا حقائب، والمغامرون بلا هدف، ومن عبر الحدود خلسة من الأهواء.

في إحدى زوايا المقهى شبه الفارغ التقت بدهرٍ حياة.

لا يعرف النّادل الذي يذرع المقهى في خدمة الرّواد من منهما وهب القبلةَ شفته أوّلاً، ولا الذي ابتدأ بالغزل المُكنّى في الغناء... ولمّا تناهى إليه أنّ المسمّى دهراً يتزوّج المسمّاة حياة زمّ شفتيه، واستنكر متبرّماً. لم يحدث أن عشق عابر للمشرب عابرة إلى هذا الحدّ من التّلف. غالباً ما كان الهوى حادث مرورٍ عرضيّاً للحبّ يجِدّ في الطّريق العامّ، عند العبور في الاتجاهين. بعض هذه الحوادث كان قاتلاً، وكثير منها تسبّب في كسور تفاوتت في الخطر، وتناقلت بعض الصّحف السيّارة أن أحد الضّحايا أصيب بإعاقة عاطفية دائمة ألزمت قلبه كرسيّه المتحرّك.

"لا يعدو الأمر سكرة سريعاً ما تنقشع"، جزم النّادل.

لكنّها لم تنقشع.

عقد الشّيخ سهيل قرانهما، وغنّت النّجمة أناهيد حتى مطلع الزُّهرة. مذّاك الفرح، أهِل المقهى المهمل بالصّدف العابرة، وتكاثرت حوادث الحبّ القاتلة وغير القاتلة، وجيب النّادل المتبرّم امتلأ من الثراء. 


* كاتبة من تونس

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون