مسرّة لا تزول

11 ابريل 2018
جلال بن عبد الله/ تونس
+ الخط -

وعظتني نفسي فعلَّمتني حب ما يمقته الناس ومَصَافَاةَ من يضاغنونه، وأبانت لي أن الحب ليس بميزة في المحب بل في المحبوب. وقبل أن تعظني نفسي كان الحب خيطاً دقيقاً، مشدوداً بين وَتَدَيْنِ مُتَقَارِبَيْنِ، أما الآن فقد تحوّل إلى هالة أوّلها آخرها وآخرها أوّلها، تحيط بكل كائن وتتوسّع ببطءٍ لتضم كل ما سيكون.

وعظتني نفسي فعلمتني أن أرى الجمال المحجوب بالشكل واللون والبشرة، وأن أحدّق متبصّراً بما يعدّه الناس شناعة حتى يبدو لي حسناً. وقبل أن تعظني نفسي كنت أرى الجمال شُعلات مرتعشة بين أعمدة من الدخان واضمحلّ فلم أعد أرى سوى ما يشتعلُ.

وعظتني نفسي فعلمتني الإصغاء إلى الأصوات التي لا تولّدها الألسنة ولا تضج بها الحناجر. وقبل أن تعظني نفسي كنت كليل المسامع مريضها، لا أعي سوى الجلبة والصياح، أما الآن فقد صرتُ أتوجّس بالسكينة فأسمع أجواقها منشدة أغاني الدهور، مرتّلة تسابيح الفضاء، معلنةً أسرار الغيب.

وعظتني نفسي فعلَّمَتني أن أشرب مما لا يُعصر ولا يُسكب بكؤوس لا تُرفع بالأيدي ولا تُلمس بالشفاه. وقبل أن تعظني نفسي كان عطشي شرارةً ضئيلةً في رابية من رماد أخُمدها بعبَّةٍ من الغدير أو برشفة من جرن المعصرة. أما الآن فقد صار شوقي كأسي، وغلتي شرابي، ووحدتي نشوتي. وأنا لا ولن أرتوي. ولكن في هذه الحرقة التي لا تنطفئ مسرّة لا تزول.


* مقتطف من كتاب "البدائع والطرائف"

دلالات
المساهمون