مسرح الشباب بأريانة: استعارات اللحظة الراهنة

27 اغسطس 2014
من عرض "الطفل المستبدل"، تركيا
+ الخط -

عاد "المهرجان الأورومتوسطي لمسرح الشباب" في مدينة أريانة التونسية، بعد انقطاع دام سنوات، ليستأنف منذ عامين احتفاءه بالمسرح الشاب في تجلياته المختلفة، ساعياً إلى إقامة حوار مسرحي بين ضفتي المتوسّط.

تجدر الإشارة بدايةً إلى أن هذه التظاهرة الفنية التي تأسّست عام 1999 هي أكثر من استعراض احتفالي لعدد من الأعمال الدراميّة. إنّها في الواقع مختبر مسرحي كبير يعمد شباب المسرح من خلاله إلى تفكيك الأعمال المسرحية وتأمّلِ مختلف عناصرها، مستأنسين بآراء بعض المختصين الآتين من بلاد كثيرة.

شارك هذه الدورة (السابعة) مسرحيون من بلدان عربية وأوروبية، من بينها تركيا وإسبانيا والجزائر وليبيا، فضلاً عن مشاركة جمعيات وفرق مسرحية من تونس. كما ضمّت حصصاً حوارية انعقدت بين شباب المسرح وكبار الممثلين والمخرجين، وبرنامجاً يحمل عنوان "شخصيات بدون كلام" أشرف عليه معز التركي وفؤاد اليتيم.

قيمة هذا المهرجان تكمن أولاً في جمعه بين مسرحيّات تنتمي إلى اتجاهات فنّية وفكريّة مختلفة. إذ دأب، على مدى أسبوع، على تقديم عروض متنوعة المضامين والأساليب لجمهور غزير ومتنوع الأهواء والأذواق، فحوّل بذلك مدينة أريانة إلى خشبة كبيرة تعجّ بالألوان والأصوات والأضواء، ويتزاحم عليها المولعون بالفنّ الرابع الذين قدموا من أماكنة بعيدة مختلفة.

وأوّل ما يلفت الانتباه في العروض التي قدّمتها الفرق المسرحيّة المشاركة في هذه الدورة جنوح أغلبها إلى التجريب؛ التجريب بوصفه خروجاً على كلّ ما استقرّ واستتبّ وبات سائداً، واستشرافاً لأفق تعبيري وفنّي جديد. ويتجلى ذلك خصوصاً في عدول أكثر الأعمال عن لغة المسرح التقليديّة التي هي أقرب ما تكون إلى اللغة الكنائية التي يتحوّل العرض معها إلى "كناية" عمّا يجري في الواقع الموضوعي لعلائق المجاورة التي تجمع بينهما، واستبدالها بلغة رمزية يستقلّ من خلالها العمل المسرحي بنفسه، ليصبح واقعاً تخييليّاً يحاور الواقع الموضوعي دون أن يذوب فيه. فإذا كان المسرح الواقعي مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالمرجع، لا يني يومئ إليه ويحيل عليه، فإنّ المسرح الاستعاري يعيد خلق الواقع ويحوّله إلى منظومة من الرموز، إلى حشد من الصور والأشكال والأقنعة.

صحيح أنّ خشبة المسرح تشحن الأشياء والأجساد الواقفة عليها بطاقات دلاليّة جديدة فتنأى بها عن وظائفها الاجتماعيّة المعروفة وتحوّلها إلى علامات، لكنّ المسرح الواقعي يطوّق هذه الدلالات، يحدّ من قوّتها، مذكّراً المشاهد باستمرار أنّ ما يراه فوق الخشبة ليس إلا امتداداً للواقع. في المقابل، يسعى المسرح الاستعاري إلى خلق فجوة بين عالم النصّ ونصّ العالم، كما يسعى إلى تحويل كلّ الأشياء التي تؤثث الخشبة إلى مصادر تخييل وإيحاء، فتصبح المسرحيّة، بكلّ عناصرها المتفاعلة، دالاّ أكبر يشكّل الجمهور دلالاته ومعانيه.

يتجلّى هذا النزوع الاستعاري في عدد من المسرحيّات، لعلّ أهمّها العرض الإسباني "رسائل من حرير" الذي جعل من بعض الأساطير القديمة ذريعة لتحويل الخشبة إلى فضاء تتقاطع في حيّزه كل الفنون: الرقص والغناء والموسيقى والمسرح وخيال الظل. عرض يأخذ بأيدينا برفق ويحملنا الى عالم جميل، فيه ما في الحلم من غرابة وعذوبة. مخرجة العمل مونيكا سانشيز، الملقّبة في إسبانيا بـ "الوردة الرّاقصة"، انعطفت على الرقص الشرقي، والصوفي على وجه الخصوص، بالنظر والتأمّل، كما تعاونت مع الفنان المصري محمود رضا من خلال "الفرقة الوطنية للرقص".

المسرحية الثانية اللافتة، "الطفل المستبدل"، أنجزتها "فرقة مدينة أنتاليا" التركية وأخرجتها حسبيا أيغول أوزقور؛ مسرحيّة تروي قصة عائلة استبدلت، عن طريق الخطأ، رضيعها بآخر، لكنّها أصرّت على تبنّيه، رغم قبحه، لأن الحب الذي ربط الأم بهذا الرضيع كان أقوى من محاولات الجيران اجتثاثه من أحضانها. ويحتوي هذا العمل لوحات فنية راقصة تترجم لغة النصّ إلى حركات وأضواء وأقنعة. ويتميّز بالأداء العالي للممثلين.

أما المسرحية الثالثة اللافتة فهي "البقعة السوداء" لـ "جمعية النصر لفنون العرض" من مدينة ورقلة الجزائرية، وتشكّل فعل إبحار في ليل النفس البشرية من أجل إدراك ما استخفى من أسرار الإنسان وخفاياه. هناك، في تلك المنطقة التي يلفّها الغموض، ثمة بقعة سوداء ورثها الابن عن أبيه، وغاية الشخصية الرئيسة من خلال كل مشاهد هذا العمل هي محاولة إضاءة تلك البقعة حتّى يتحقق خلاصها. مسرحية ذات بعد ذهني ألّفها وأخرجها عرباوي مهدي وتعدّ محاولة جريئة لاستعادة المسرح السيكولوجي، لكن في إهاب اجتماعي.

باختصار، سعت هذه المسرحيات وغيرها، وإن بنسب متفاوتة، إلى تأسيس خطاب مسرحي مختلف يجترح أسئلة فنّية ودلاليّة جديدة. وكلها جنحت إلى خطاب دراميّ حديث يتوق إلى تجاوز الجماليّات المتداولة وابتكار جماليّات جديدة تفصح عن اللحظة الراهنة وتطرح أسئلتها.

دلالات
المساهمون