يطاردهم الخوف في صحوهم وغفوهم، ذلك الخوف من الموت. هؤلاء هم المصابون بالسرطان، الذين يؤلفون مجتمعاً مستضعفاً يأكله المرض ويؤرقه غياب أطباء الاختصاص وتستنزفه تكاليف العلاج الباهظة. وتجد هؤلاء في أروقة مستشفى صالح عزيز في العاصمة التونسية، جالسين مكفهري الوجوه، فرادى وجماعات. نساء وأطفالاً ورجالاً، كلّ أتى حاملاً مرضه، آملاً الشفاء.
قبل عشرة أعوام، حملت فاطمة ابنتها الصغيرة التي كانت تبلغ من العمر حينها خمسة أعوام، لتجري لها فحوصات بعد اكتشاف كتلة صغيرة في صدرها. أتت النتيجة لتشير إلى إصابتها منذ ولادتها، بالسرطان. ومنذ ذلك الحين، تحمل الأم ابنتها أسبوعياً من محافظة قابس (جنوب شرق) إلى العاصمة وتجتاز نحو 450 كيلومتراً، لتتلقى علاجها الكيميائي في معهد صالح عزيز، المستشفى الوحيد المتخصص في علاج السرطان في جمهورية تونس. لا خيار لديها في غياب أطباء الاختصاص في مدينتها، كما هي الحال في المحافظات الباقية التي تشكو المأساة نفسها.
إذا حاولت البحث عن عدد المصابين بالسرطان في تونس، فلن تجد إحصاءات ولا دراسات شاملة تحدّد حجمه في البلاد. ثمّة دراسات محدودة أعدّتها بعض جمعيات تهتم بالمرض، من قبيل "جمعية مرضى السرطان"، تُضاف إليها بعض إحصاءات رسمية متضاربة من عام إلى آخر. وتشير رئيسة الجمعية روضة زروق لـ"العربي الجديد" إلى أنّ "أكثر من 12 ألف إصابة تسجّل سنوياً، مع أكثر من ألفَي إصابة بسرطان الثدي تحديداً".
وكانت إحصاءات أخرى قد صدرت في عام 2009 تحدّثت عن 10 آلاف إصابة سنوية، من دون أن ينفي حينها وزير الصحة منذر الزنايدي، تلك الأرقام. من جهته، استبعد وزير الصحة في عهد الترويكا عبد اللطيف المكي ارتفاع عدد إصابات السرطان بهذا الحجم، من دون أن يفنّد ذلك من خلال دراسة رسمية دقيقة. إلى ذلك، بيّنت إدارة الرعاية الصحية الأساسية التابعة لوزارة الصحة في تونس في عام 2014، أنّ عدد الإصابات الجديدة قارب سبعة آلاف حالة، من بينها 3694 بين الذكور و2900 بين الإناث. ويشير المعهد الوطني للصحة العمومية إلى أنّ الأورام الخبيثة تسببت في 16.1% من الوفيات في البلاد. ويتصدر سرطان الرئة قائمة الأورام القاتلة في تونس، يليه سرطان الثدي.
بالنسبة إلى الذكور، يصيب سرطان الرئة 25% من مجموع المصابين بالسرطان. وتعدّ الفئة العمرية المتراوحة بين 65 و70 عاماً، أكثر الفئات إصابة. ويأتي سرطان المثانة في المرتبة الثانية مع 13% من مجموع المصابين، ليليه سرطان البروستات في المرتبة الثالثة مع 10%، ونجده لدى المتقدّمين في السن خصوصاً.
أما بالنسبة إلى الإناث، فيحتل سرطان الثدي المرتبة الأولى مع 30% من مجموع المصابات بالسرطان، ويظهر خصوصاً ما بين 30 و55 عاماً. يمكن التخلص منه نهائياً عند اكتشافه مبكراً، مع العلم أنّ 35% من الإصابات بسرطان الثدي تُشخّص في المرحلة الثالثة أو الرابعة. بالتالي، تكون تكاليف العلاج مرتفعة وأمل الحياة غير مضمون. إلى ذلك، يُعدّ سرطان القولون ثاني أنواع المرض التي تصاب بها المرأة التونسية مع 10%، وهو يطاول النساء اللواتي تتراوح أعمارهن ما بين 60 و70 عاماً.
معهد صالح عزيز الذي يُعدّ المستشفى الوحيد في الجمهورية التونسية المتخصص في علاج السرطان، انطلق في 20 مارس/ آذار 1969 تحت اسم المعهد الوطني للسرطان. وقد تغيّر اسمه لاحقاً، تيمناً بأول جرّاح تونسي. ما إن تدخله، حتى تلحظ طوابير طويلة اصطف فيها رجال ونساء من كل الأعمار والمناطق (لا سيما الجهات الداخلية)، لا يجمعهم إلا البحث عن شفاء لعلتهم أو تشخيص دقيق لحالاتهم. الجميع يتدافع لتسجيل اسمه قبل غيره، والجميع متعب من المرض والتنقل. ولأن مقاعد المستشفى لم تعد تستوعب الأعداد، اختار كثيرون الأرض، في انتظار أدوارهم.
في هذا الركن، جلست امرأة أربعينية القرفصاء فوق حقيبة ملابس وأسندت ظهرها إلى الحائط. هي قصدت العاصمة آتية من أحد أرياف محافظة سليانة، منذ الفجر. بعدما خضعت لفحص أوّلي في مستشفى محلي، قصدت العاصمة للتأكد من حالتها عبر مراجعة طبيب متخصص، ولا سيّما أنّ كل الجهات التونسية تشكو غياب طب الاختصاص.
من جهته، يخبر منير ثابتي أنه يعاني من ورم في صدره، وقد حُدّد له موعد لعملية جراحيّة. المضحك المبكي هو أن قسم التصوير حدّد موعداً له بعد ثمانية أشهر، أي بعد موعد الجراحة. لذا فإن ثابتي مضطر إلى إجراء صورة إشعاعية في مستشفى خاص، ليزوّد طبيبه بها قبل موعد الجراحة، "على الرغم من ارتفاع تكلفة التصوير. لكن لا خيار لديّ".
ويفيد أحد العاملين في المستشفى، بأن ثمّة آلة تصوير واحدة متوفّرة في هذا المستشفى الذي يستقبل يومياً مئات المرضى. بالتالي، يصعب تحديد مواعيد تصوير تتناسب مع جداول كل المرضى.
كثيرون هم المرضى الذين يضطرون إلى إجراء فحوصات أولية في مستشفيات خاصة على الرغم من عدم قدرتهم المادية، نظراً للاكتظاظ الذي يشكو منه المعهد. وتؤكد زروق هنا أنّ "المرضى في تونس يعانون من مشاكل متابعة العلاج والانتقال إلى العاصمة للعلاج الكيميائي"، مضيفة أنّ "مرضى كثيرين، خصوصاً من المناطق الداخلية، يفوّتون جلسات علاج في العاصمة".
اقرأ أيضاً: متعاطو المخدرات ضحايا القوانين التونسية