سلّط الانفجار المروّع الذي وقع في الرابع من أغسطس/ آب في مرفأ بيروت، الضوء على المرفق الحيوي الذي يعتبر صورة مصغّرة عن مؤسسات الدولة اللبنانية، لجهة استشراء الفساد والمحسوبيات والرشاوى ونفوذ قوى سياسية فيه.
في مرفأ بيروت، تهريب وتهرّب ضريبي ورشاوى وأرباح مناقصات ومزادات علنية مشكوك بها، ورواتب خيالية يستفيد منها موظفون على مستوى رفيع محسوبون على القوى السياسية.
وفيه أيضاً، "خط" سريع لـ"حزب الله"؛ القوة السياسية الأبرز في لبنان، التي تحتفظ بسلاحها الى جانب الجيش، يمكنه من تمرير ما يريده من دون رقيب، وصفقات تعود بالفائدة على مسؤولين وموظفين محسوبين على قوى سياسية باتت شريحة واسعة من اللبنانيين تطالب برحيلها.
ومن هذه القوى "التيار الوطني الحر" بزعامة صهر رئيس الجمهورية ميشال عون النائب جبران باسيل، و"تيار المستقبل" بزعامة رئيس الحكومة الأسبق سعد الحريري، وفق ما يقوله متابعون لملف المرفأ لوكالة "فرانس برس".
تأسس مرفأ بيروت عام 1894، وكانت تديره شركة فرنسية، ثم شركة خاصة اعتباراً من 1960، وفي بداية التسعينيات، ومع انتهاء امتياز الشركة، عُيّنت لجنة رسمية مؤقتة لإدارته ولا تزال قائمة حتى اليوم
ويقول الباحث محمد شمس الدين من مركز "الدولية للمعلومات"، الذي نشر دراسات عدة حول الفساد والتهرب الضريبي في لبنان: "يُعدّ المرفأ من أكثر المرافق فساداً"، مضيفاً: "ليست هناك رقابة فعلية من الحكومة عليه، سواء على جباية الأموال أو إنفاقها".
وتأسس مرفأ بيروت عام 1894، وكانت تديره شركة فرنسية، ثم شركة خاصة اعتباراً من 1960. في بداية التسعينيات، ومع انتهاء امتياز الشركة، عُيّنت لجنة رسمية مؤقتة لإدارته ولا تزال قائمة حتى اليوم، ويقول شمس الدين إنها تعمل وكأنها "شركة خاصة".
وكما في كل مؤسسات الدولة، يتمّ اختيار أعضاء اللجنة بحسب انتمائهم الطائفي: رئيس سني، وستة أعضاء يمثلون الطوائف الرئيسية، ويكون المحظيون مدعومين من أبرز الأحزاب السياسية. ويقول شمس الدين: "نظام المحاصصة ذاته في الدولة ينطبق على المرفأ".
ويستخدم "حزب الله"؛ القوة السياسية الأبرز في لبنان، المرفأ لتمرير بضائع لصالحه أو لصالح رجال أعمال محسوبين عليه، وفق مصادر عدة.
ويقول رئيس مجلس شورى الدولة السابق القاضي شكري صادر، لـ"فرانس برس": "من المعروف أن هناك بضائع للمقاومة (حزب الله) تمر عبر المرفأ والمطار"، عدا عن المعابر الحدودية.
ويضيف: "في المرفأ كما في المطار، لديه خط عسكري تمر عبره البضائع والسلع من دون تفتيش أو رقابة"، موضحاً: "خط المقاومة هذا هو نتيجة اتفاق ضمني مع السلطات على ألا يقترب منه أحد".
في العام 2019، فرضت وزارة الخزانة الأميركية عقوبات على المسؤول البارز في "حزب الله" وفيق صفا؛ بسبب استغلاله "الموانئ والمعابر الحدودية اللبنانية للتهريب وتسهيل السفر بالنيابة عن حزب الله"، وفق ما جاء في بيان للسفارة الأميركية آنذاك.
وأورد البيان مثلاً على ذلك بالقول: "استفاد حزب الله من صفا لتسهيل مرور المواد، بما في ذلك المخدرات غير المشروعة والأسلحة، عبر ميناء بيروت في لبنان".
بعد الانفجار الذي تسبّب بمقتل أكثر من 190 شخصاً وإصابة أكثر من 6500 آخرين بجروح، تحدث البعض عن سلاح ومواد أخرى غير قانونية يخزنها "حزب الله" في المرفأ، لكن الأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصرالله، نفى أي علاقة لحزبه بمرفأ بيروت.
ويسمّي تقرير أعده جهاز أمني، قبل أشهر، واطلعت وكالة "فرانس برس" على نسخة منه، خمسة موظفين على الأقل في مفرزة الجمارك في قسم معاينة البضاعة، "يمنع استبدالهم"، وفق ما ورد فيه.
ويورد بالتفصيل تبعيتهم لمسؤولين محسوبين بدورهم على قوى سياسية (التيار الوطني الحر، حزب الله، حركة أمل برئاسة رئيس البرلمان نبيه بري، تيار المستقبل، حزب القوات اللبنانية).
ويفصّل التقرير كيفية تقاضيهم وغيرهم من موظفي المرفأ الرشى لقاء معاملات إخراج البضاعة من المرفأ. ولا يجزم الخبراء إن كانت هذه المداخيل غير القانونية تستفيد منها الأحزاب مباشرة، أو فقط الموظفون المحسوبون عليها.
ويرأس اللجنة المؤقتة لإدارة المرفأ حسن قريطم المحسوب على "تيار المستقبل"، منذ العام 2002 قبل أن يتم توقيفه مع 24 شخصاً آخرين، بينهم مدير عام الجمارك بدري ضاهر المحسوب على "التيار الوطني الحر" في إطار التحقيق الجاري في الانفجار الناتج وفق السلطات عن حريق اندلع في مستودع خزنت فيه 2750 طناً من "نترات الأمونيوم" منذ أكثر من ست سنوات، من دون أي إجراءات وقاية.
وعلى الرغم من أن مسؤولي المرفأ على اختلاف وظائفهم ومسؤولين سياسيين وقضائيين وأمنيين كانوا على علم بخطورة هذا التخزين، لم تُتخذ أي تدابير لتجنب الكارثة.
وحتى وقوع الانفجار، كان لبنان يعتمد في غالبية عملياته التجارية على المرفأ الذي تمر عبره أكثر من 70% من البضائع المستوردة في بلد يعتمد أساساً على الاستيراد.
وتبلغ إيرادات إدارة المرفأ السنوية نحو 220 مليون دولار يعود منها 60 مليوناً فقط إلى خزينة الدولة، وفق شمس الدين الذي يوضح أنّ الباقي يفترض أنه يستخدم للرواتب والأجور ولتطوير مرفأ، "إلا أننا فعلياً لا نعرف إلى أين يذهب".
أما في ما يتعلق بالجمارك، فيقدّر حجم التهرّب الجمركي سنوياً، وغالبيته من المرفأ، بين مليار وملياري دولار في بلد راوح العجز في الموازنة فيه، خلال العامين الماضيين، بين خمسة وأكثر من ستة مليارات دولار.
وعلى مرّ السنوات، خرجت إلى العلن مرات عدة فضائح فساد ما لبثت أن أعيدت ملفاتها إلى الأدراج، من دون محاسبة أحد.
ويقول شمس الدين إنّ "القوى السياسية البارزة تستخدم نفوذها من أجل توظيف أشخاص محسوبين عليها في المرفأ أو تعيين مسؤولين يغضون الطرف عن عمليات تهريب وتهرب جمركي لرجال أعمال يدعمون هذا الحزب أم ذاك، أو التأثير في عقود الشركات العديدة مع إدارة المرفأ، "إذ إن تلزيم الأشغال يجري بالتراضي، والكل يستفيد".
ويشير شمس الدين إلى أنّ عمليات التهريب تتم في معظم الأحيان "عبر جمعيات خيرية وهمية تستحصل على مرسوم من الحكومة يعفيها من الرسوم الجمركية.. فيما يعرف الجميع حقيقة الأمر".
ويبيّن التقرير الأمني أنّ موظفي المرفأ من أصغرهم إلى أكبرهم وعناصر الأجهزة الأمنية الذين يعملون فيه أيضاً، يتلقون رشاوى تتنوع بحسب البضائع التي يسرّعون تمريرها أو يخفّضون رسوم مرورها أو يغضّون النظر عنها.
على سبيل المثال، يتقاضى، وفق التقرير، رئيس كل فرقة مشرفة على المدخل الرئيسي للمرفأ 200 ألف ليرة عن السيارة المستعملة لتسهيل خروجها. ويتقاضى آخرون في الجمارك أيضاً حصتهم على السيارة المستعملة ومهمتهم تخفيض قيمتها في عملية التقييم، وبالتالي تقليل كلفة الضريبة عليها.
أما ما هو أخطر من ذلك، فهو "الممنوعات" كالسلاح والمخدرات مثلاً التي تهرّب أحياناً داخل سيارات مستعملة، وفق التقرير. والمفارقة أن جهاز الكشف بالأشعة السينية، "السكانر"، الوحيد في المرفأ، معطل.
ويقول مصدر في الجمارك رفض الكشف عن اسمه: "السكانر متوقف عن العمل منذ إبريل/ نيسان 2019 بسبب عطل تقني"، مشيراً إلى أنه "قديم جداً وكلفة تصليحه وتغيير قطعه تتخطى قيمة سعره". ولم تُقدم إدارة المرفأ على تغييره نتيجة خلاف داخل الحكومة حول تلزيمه.
وتوقف "السكانر" يعني أن عمليات التفتيش تحصل يدوياً فقط، ما يسهّل المخالفات. كما أن عمليات دفع الرسوم وإخراج البضائع لا تزال تتم على الورق ويدوياً أيضاً.
ويرى الصحافي الاستقصائي رياض قبيسي الذي يولي منذ سنوات اهتماماً خاصاً بملف الفساد في المرفأ، أنّ "جهاز الجمارك هو الفاسد الأكبر، وأكبر عملياته تحصل في المرفأ"، مضيفاً: "كل ما يهمهم هو أن يروا عملة بنجامين فرانكلين"، في إشارة إلى ورقة المائة دولار.
(فرانس برس)