مرشح في دائرة الخطر

28 مارس 2015
+ الخط -
رنّ الهاتف في مقر الحزب. أخذ عماد، عين الحزب التي لا تنام، السماعة. قبل أن ينبس بكلمة، جاءه صوت عميق وبارد على الخط:
-أعرف أن معظم أعضاء الحزب يوجدون في المقر. سينقطع الماء وخط الهاتف والتيار الكهربائي الخاص ببنايتكم. آه، باب الحزب مغلق. ليلة طيبة وتحياتي لمرشحكم في الدائرة السابعة.
قبل أن يسأل عماد عن هوية، أو يستفسر عن أي أمر، انقطع خط الهاتف. ما إن هم عماد بنقل فحوى الرسالة الهاتفية إلى أعضاء الحزب، حتى كان التيار الكهربائي قد انقطع. بينما أعضاء الحزب يتساءلون بحيرة فيما بينهم عما حصل، استعمل عماد بطارية هاتفه الخلوي، ليهبط سلالم الطابق الأول، ليفتح باب الحزب. بقلق وخوف شديدين، حاول أن يفتح الباب. لكن، الباب لم ينفتح، تأكد عماد أن الرسالة المجهولة ليست بتشويش كاذب. إنهم سجناء في مقر الحزب بلا ماء ولا كهرباء ولا هاتف.
حاول بعض أعضاء الحزب استعمال الهاتف الخلوي، لطلب النجدة، ولكن لدهشة الجميع، "المرجو الاتصال لاحقاً" هي الجملة الوحيدة التي كانت ترد على نداء استغاثاتهم.
كانت الساعة العاشرة ليلاً. والفصل شتاء والسماء تمطر بقوة. الظلام الشديد في مقر الحزب لعب على أعصاب الجميع. كان التوتر والترقب والخوف الحذر سمة الموقف. من وراء الرسالة الهاتفية؟ وما هدفه؟ وماذا يريد أن يثبت بتركهم سجناء في مقر حزبهم بلا ماء ولا كهرباء؟ 
لم يكن الحزب يثير حفيظة أو فضول أحد. كان حزباً صغيراً، غير قادر على أن يفوز بأي مقعد برلماني. كما أنه لم يكن له حضور بارز في وسائل الإعلام. ولكن مختلف الجهات كانت بطريقة ما ممتنة بوجوده في الساحة السياسية، فعلى الأقل اسمه كان يبدو لطيفاً.
لهذا عندما قرر الحزب ترشيح مراد في الدائرة السابعة، لم يكترث ولم يعارض أحد. الدائرة السابعة كانت معقلاً لأحزاب كبيرة وعريقة. وفي الواقع، كان يهيمن عليها أباطرة المخدرات. وهذا لتضمن الأحزاب الكبيرة وجودها في الدائرة السابعة، قبل أن تزكي أي مرشح كانت تأخذ الإذن من هؤلاء الأباطرة. وكثيراً ما كانوا لا يثقون بأحد، ويفضلوا أن يرشحوا واحداً منهم، فتذعن الأحزاب إلى الأمر، بعد أن يتحرك المال في كل اتجاه. 
بدا واضحاً أن مراد أثار قلق جهات معينة. وبعد أن كان ترشيحه من الحزب نكتة تتداولها الأوساط السياسية باستهزاء، أصبح خطرا يهدد الأحزاب الكبيرة وأباطرة المخدرات. دخل إلى مربع العمليات الضيق.
كانت لدى مراد رغبة كبيرة للفوز بالانتخابات. وكان حيويا ويمتاز بالحماس والصبر. ورغب دوما في كسر الحاجز بين المواطن والسياسة. كان يتحدث مع الشباب والشيوخ والنساء والأطفال. يتحدث مع المومسات والمتسولين والمتشردين واللصوص. يتحدث مع التجار الصغار والحرفيين والأجراء. كان حلو اللسان، ويعتقد، بإخلاص، أن على الحزب أن يساعد مختلف شرائح المجتمع، من دون أن يقصي أحداً، وكان يعتقد أن السياسة وجدت لترقية المجتمعات، وليس لتدهورها ودمارها.
وعلى ما يبدو، كانت أعين خفية تراقب تحركات مراد. ولم تكن راضية عما يحدث، وأصبحت متوجسة من المنحى الذي قد تأخذه الانتخابات في الدائرة السابعة هذه المرة. وسط الأجواء المتوترة والظلام، تحدث مراد بصوت قوي وهادئ مطمئنا باقي الأعضاء:
- ما حصل الليلة يدل أننا في الطريق الصحيح. ولا ولن نتراجع. إنها الحادية عشر ليلاً. الله أنعم علينا بالظلام الليلة، لنخلد في نوم عميق، ولنرتاح قليلاً، لأننا أجهدنا أنفسنا كثيراً في الأشهر الأخيرة. ليلة طيبة، وتأكدوا أن الله يحرسنا. غداً ينتظرنا عمل شاق إن شاء الله.
عندما ذكر مراد أعضاء الحزب بالمجهود الكبير الذي قاموا به في الأشهر الأخيرة، شعر الجميع بالتعب والعياء، وبرغبتهم الشديدة في الاسترخاء، فقرروا النوم.
استيقظ الجميع بذعر على صوت الهاتف وهو يرن. كانت السابعة صباحاً. قفز مراد ليرد على الهاتف. ففاجأه صوت من وراء السماعة يقول: صباح الخير مراد. أليس كذلك؟ لا بد أنك تتأمل الأسقف والحيطان باحثاً عن كاميرا للمراقبة. (يضحك باستهزاء) الكاميرات اتركوها للمبتدئين. تأكد أننا  نوجد في خلاياك، فهمت أننا جديون ولا نمزح. اسحب ترشيحك اليوم، وإلا التهديد سيكون دموياً غداً".
انقطع الاتصال. ظل مراد مذهولاً للحظة. شيء ما في أعماقه أخبره أن التهديد جدي. فكر لحظه بإخبار السلطات. لكنه كان يدرك أن الاغتيالات السياسية فوق القانون وفوق السلطات. مهما حاولت السلطات حمايته ستبقى عاجزة. وفي السياسة، كل شيء مباح. وقد يتحول إلى مادة للتفاوض، وهو لا يريد أن يتحول إلى قضية أو ملف. كما أنه يعرف أن المواطنين، إذا  أدركوا أنه مهدد، قد لا يصوتوا له، لأنهم لا يريدون الدخول في المشكلات، وسيخافون على حياتهم وحياة أسرهم. عليه أن يظل قويا وصامدا. توجد أشياء في الحياة لن يدبرها إلا الله سبحانه. قرر أن يستمر مهما كان الثمن. لن ينسحب من الترشيح. واتفق مع مختلف أعضاء الحزب أن يتجنبوا الاجتماعات في الحزب، لأنه من الواضح أن الحزب مراقب.
في التاسعة مساء، رن هاتفه الخلوي. انقبض قلبه. شعر بالغضب والحنق. عماد دهسته سيارة كانت تسير بسرعة مجنونة. عماد كان أكثر من أخ في الحزب. فهو كان كاتماً لأسراره، ويخبره بكل ما يدور في الحزب بغيابه. بينما كان يفكر في المرحوم عماد، رن جرس الهاتف، ليخاطره الصوت البارد المشؤوم: "فهمت أننا لا نمزح. قلنا لك إن التهديد سيكون دموياً. آخر إنذار، اعتذر عن حضور التجمهر الخطابي في سينما الريف، وإلا حياتك ستكون الثمن هذه المرة".
حضر مراد جنازة المرحوم عماد. وازداد إصرارا على المضي قدما. لن يخضع للتهديد، ولو كلفته حياته. لن يعتذر، وسيحضر المهرجان الخطابي، وسيلقي كلمته.
في أثناء المهرجان الخطابي، وهو يلقي كلمته أمام آلاف الحشود. وصلت رسالة نصية عبر هاتفه. "نجحت في الاختبار. مرحبا بك في الدائرة السابعة".
عندما قرأ الرسالة، تذكر مقتل صديقه عماد وشعر بالغثيان من السياسة. وأدرك أنه أبداً لن يستطيع أن يعود كما كان.
801B3919-7232-4F11-BE63-30C4073E7E55
801B3919-7232-4F11-BE63-30C4073E7E55
أمل مسعود (المغرب)
أمل مسعود (المغرب)