مرحباً يا صديقي

26 سبتمبر 2015
+ الخط -
كان هذا أحد شعارات الحفل الغنائي الجماهيري الذي شاركت فيه تسع فرق مغاربية وأفريقية وفرنسية، وأقيم مساء 19 سبتمبر/ أيلول الجاري في ساحة أوتيل دوفيل، وهي ساحة البلدية المركزية لباريس والأكثر شهرة فيها، وتقع في وسطها القديم على طرف نهر السين، وبالقرب من أبرز معالمها التاريخية والسياحية، كنيسة نوتردام، والشاتليه والسان ميشيل والحي اللاتيني. كتب هذا الشعار باللغات الثلاث (الانكليزية والفرنسية والعربية) على بطاقات كبيرة، حملها حاضرون عديدون، عليها صورة باللون الأصفر لكفٍّ مفتوحة، كما كان بعضها صغيراً ومحمولاً على كف حامله.
أما العنوان الرئيس للحفل، فكان: كونسيرت من أجل الأخوة ودعم اللاجئين. ورعت الحفل ودعت له 35 جمعية ومنظمة فرنسية، شارك بعض ممثليها ورؤسائها في كلمات الافتتاح الحماسية، من أبرزهم بيير هنري، مدير جمعية فرنسا أرض اللجوء، ودومينيك سوفو، رئيس الجمعية الفرنسية ضد العنصرية. وجاء الحفل في سياق متواصل من تحرك مؤسسات المجتمع الفرنسي، رداً على النزعات العنصرية واليمينية المعادية لتقبّل اللاجئين، وموجاتهم الجديدة في فرنسا، والتي تجلّت في رفض بعض بلدياتها قبول اللاجئين، واشتراط بعضها الآخر قبولهم أن يكونوا من الديانة المسيحية. كما صخُب في نقاشات الإعلام، ثم البرلمان الفرنسي، للمسألة، حيث وصل الأمر بالرئيس الفرنسي الأسبق، والمرشح الجديد المتوقع، نيكولا ساركوزي، وهو زعيم أكبر أحزاب اليمين الفرنسي، والمسمى حديثاً حزب الجمهورية، إلى أن يطالب بتعديل اتفاقيتي شينغن، المتعلقة بالحدود، ودبلن المتعلقة باللجوء، واستبدال الثانية بالهجرة المختارة، فما كان من الرئيس الاشتراكي للبرلمان إلا أن وصف الاقتراح بالاستعمار الجديد، الطامح إلى انتقاء الخبرات والانتلجنسيا وجلبها، ثم رمي باقي المساكين من الشعوب التي تعاني عوامل اللجوء والهجرة.
وسارعت السلطات الفرنسية، وفي قمتها الرئيس فرانسوا هولاند، إلى تأكيد قيم حقوق الإنسان والترحيب باللاجئين، معلناً حصة فرنسا البالغة 24 ألف لاجئ في العامين المقبلين، كما بدأت بلديات ومؤسسات تحركاتها للاستعداد لتلبية حاجاتهم. وفي إطار ذلك، دعت بلدية باريس إلى اجتماع تعبئة حاشد يوم 10 سبتمبر الجاري، ترأسته رئيسة البلدية، آني هيدالغو، وحضرته ما يمكن تسميتها حكومة باريس وجميع مرافقها، وكان لي شرف الدعوة إليه، والتحدث قليلاً في إطاره عن حاجات اللاجئين وجوانب مشكلاتهم الأخرى، خصوصاً في سورية.
وكانت مسألة اللاجئين قد صارت مجدداً مسألة ملحّة وداخلية أوروبياً، منذ انفجارها قبل فترة، عقب انتشار الصور والأخبار الفاجعة لزوارق الموت التي ركبها آلاف محاولين العبور تهريباً إلى أوروبا، خصوصاً بعد اكتشاف ضحايا الشاحنة في النمسا، فتحركت مؤسسات المجتمع المدني في عدة بلدان أوروبية، وخرجت جماهيرها ترحب باللاجئين، ثم تصاعدت، إثر الانتشار الإعلامي الواسع النطاق لصورة الطفل السوري الغريق عيلان.
وأدت هذه المسألة إلى انكشاف الانقسام السياسي والاجتماعي حولها، بين دول أوروبا الشرقية الوريثة المؤسفة للنُظُم الديكتاتورية الاشتراكية، والتي مثّل سلوك شرطتها وتصريحات قادتها ضد اللاجئين خروجاً فاضحاً على قيم حقوق الإنسان ومواثيق الاتحاد الأوروبي الذي تنتمي إليه، بينما ارتقى سلوك شرطة بلدان أوروبا الغربية إلى مستوياتٍ، دفعت إلى وصفهم من لاجئين بالملائكة، أما قادتها، وفي مقدمتها المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، فقد ارتفعوا إلى مصاف الزعماء المبجّلين، إلى درجة إطلاق الأسماء والصفات المحبوبة عربياً عليهم، كما في (الخالة ميركل). وهي التي تصدّرت موجة الترحيب باللاجئين، وحذرت من إهانة كرامات الآخرين، وواجهت بشدة، مع شرطتها، مظاهرات المجموعات العنصرية ضدهم، كما استقبل بلدها أعداداً كبيرة من اللاجئين، تعاظم، في أحد الأيام الماضية، ليصل إلى حوالي مائة ألف في مدينة ميونيخ وحدها.
لم يخل هذا التعاطف الأخلاقي من تفسيرات اقتصادية وسياسية واجتماعية، فقد اعترف مدير
البنك المركزي الألماني بأن اللاجئين سيحققون سريعاً نسبة 0.25% في نمو الاقتصاد الألماني، وهي نسبة مهمة، ولم يكن ممكناً رصد الوصول إليها قبل حساب قوة العمل الداخلة مع اللاجئين، في بلد يعاني من ضعف متوقع في نموه الديمغرافي، ما يؤدي إلى نقص مرافق في العمالة والتشغيل. وإذا كان هذا الأمر مرغوباً وإيجابياً لمستقبل اللاجئين في بلد يتفوّق اقتصاده القوي على غيره من اقتصاديات أوروبا، فهو أمر لا يخلو من نقد يساري، يرى في قوة عمل اللاجئين الجدد استثماراً جديداً، سيستعبدهم في أسفل مراتب العمل الرأسمالي وماكينته. أما التفسيرات الاجتماعية والسياسية، فلم تخل من محاولة تطوير توازن في تركيب المجتمع الألماني، حيث كانت الجالية التركية قد برزت فيه إلى حد كبير. ولذا، يتوقع للموجة الجديدة من اللاجئين أن تدعم التوازن الاجتماعي بجاليات أخرى، خالية من الأتراك، إثر نجاح التنمية التركية في العقدين الأخيرين، وتحوُّل تركيا إلى بلد جاذب، بعدما كان طارداً فترة طويلة سابقاً.
يعيد ذلك كله تأكيد أن عالمنا واحد، ولا يمكن فيه لبلد أن ينعزل طويلاً، ويحل جميع مشكلاته بعيداً عن الآخر، خصوصاً إذا كان قريباً أو شديد القرب منه، وطالما ارتبط تاريخه به. ولشد ما يصدق ذلك على العلاقة بين أوروبا والشرق الأوسط، أو بين بلدان ضفتي المتوسط. إذ على الرغم من الحدود والحواجز وقيود السفر، فقد اقتحمت موجات اللاجئين أو المهاجرين ذلك كله، ووضعت أوروبا مجدداً أمام امتحانها الأخلاقي، كما أمام خيارات مستقبلها الاقتصادي والاجتماعي. وستكون محاولة تسوير حدودها، بتعديل اتفاقية شينغن، وإعادة الحواجز والتمييز بين اللاجئ والمهاجر، دليلاً جديداً على فقدان أوروبا مبادرتها ودورها المنسجم مع إمكاناتها وتاريخها، وهو الأمر الملاحظ، خصوصاً في المسألة السورية، ما سيذكّر، مرة أخرى، بوصفها القارّة العجوز. بينما عملت منظمات فرنسية وأوروبية عديدة سابقاً على الارتفاع بقيم حقوق الإنسان وتشاركها عالمياً، فكانت هناك مؤسسات، مثل "أطباء بلا حدود" و"صحافيون بلا حدود"، وهي تحاول ذلك اليوم، تحت عناوين، مثل مرحباً يا صديقي، أن تقول نحن شركاء بلا حدود أيضاً.