29 نوفمبر 2019
جمهوريات الملح العربية
لم يكن يخطر في بال الروائي العربي الراحل، عبد الرحمن منيف، عندما كتب خماسيته "مدن الملح"، أن الزمن سينقلب، وأن مكر التاريخ سيلحق النموذج العام الذي بنى عليه تفاصيل روايته الشائقة، وهو النموذج المفترض لممالك ونظم قامت على اكتشاف الثروة النفطية وتصديرها، والتي توقع أنها ستزول بزوالها، كما تذوب أكوام الملح عندما تدهمها الأمطار والسيول. كونها، تلك الممالك، وفق تفاصيل الفرضية النموذج، كانت حدثا استثنائيا، نتج عن فورة نفطية، ولم تكن نتاج تراكم تاريخي لمجتمعات طبيعية تملك أسباب استمرارها ونموّها، فها هي معظم دول النموذج الآخر، غير الملحية والمغايرة لنموذج الرواية، والتي كان من المفترض استقرارها ونموها وفق طبيعية (ورسوخ) مكوّناتها، تكاد تتهاوى، أو تضطرب على طريق التغير. إذ لم ينصرم العام الماضي، إلا وكان لبنان آخر الدول التي لحقت أخواتها من الجمهوريات العربية التي ثارت شعوبها، وجعلت أنظمتها ودولها موضع أسئلة مصيرية. وكان العراق قد سبقه بثورة مستمرة، أما السودان فقد بدأ طريق التغيير المتدرج، إثر مفاوضاتٍ نجحت الثورة في إدارتها مع بقايا النظام السابق. وفي حين يستمر اضطراب كل من جمهوريات ليبيا وسورية واليمن، وتجتاحها حروبٌ متنوعةٌ وتدخلاتٌ دولية عاصفة، فإن معظم باقي الجمهوريات العربية شهدت، وما زالت، تغييراتٍ عاصفة، إلى هذه الدرجة أو تلك.
وفي المقارنة، معظم الدول العربية التي تعرّضت لصراعاتٍ مصيريةٍ تمسّ كيانها تنتمي إلى نموذج الجمهورية، بحسب اسمها على الأقل، لكن الصراعات بدأت بين جماهيرها
ونظمها حول مطالب التغيير الديمقراطي، وسرعان ما تطوّرت، فصارت حروبا أهلية ومجالا مفتوحا لتدخلات إقليمية ودولية. وحدث ذلك بوضوح، لأن تلك الأنظمة اعتبرت كيانات دولها مجرّد توابع لها، أو ملكيات عائلية خاصة باسمها، بما يتناقض كليا مع نموذج الجمهورية الذي قامت على أساسه وسمّيت باسمه، وأوضح مثال على ذلك نموذج جمهورية سورية الأسد الذي يحمل تناقضه في اسمه ذاته. بينما يلاحظ، من جهة أخرى، استقرار دول عربية، قامت على تكرار نموذج أبوي قبلي، قارب بعضها شكلا دستوريا، تشيع فيه الحريات العامة السياسية والحقوقية والصحافية. وفيه تبرز المملكة المغربية والأردن ، بينما ما زالت دون ذلك، وبدرجاتٍ مختلفة، باقي الممالك والإمارات الأخرى.
لماذا، وكيف حدث ذلك، وهل كانت عوامل التماسك الاجتماعي والضبط في الأخيرة أقوى من الأولى؟ بينما معروفٌ لكل متابع أن تلك العوامل كانت أشدّ ما تكون عليه في نظم الجمهوريات العربية، بالمقارنة مع غيرها، لكن ذلك لم يمنعها من الانفجار وتوالي الصراعات، بل على العكس، كانت تلك العوامل دافعةً لها وتسببت بالثورة على النظام برمته، كما حدث في سورية وليبيا على الأقل، وفي ظل مناخ الربيع العربي الذي أحاط بالجميع أيضا. أم هو الاستثناء العربي، مرة أخرى، الذي ما زال يمنع تحوّل الجمهوريات العربية إلى جمهورياتٍ ديمقراطيةٍ، تنتمي إلى اسمها وعصرها بالفعل؟ في حين أن جماهير تلك الدول ما زالت تخرج في كل مكان، مطالبةً بحقوقها وحرّياتها وبمكانتها الإنسانية في العصر والتاريخ، بينما أنظمتها الجمهورية ما زالت قلقة، ومتردّدة بين نموذجي الملكية (وأبويتها) والجمهورية الديمقراطية المنتمية حقا إلى شعبها ومواطنيها. ولذلك شاهدنا انحياز جمهوريات عربية (سورية الأسد وعراق صدّام وليبيا القذافي) إلى عصبيته الاجتماعية الضيقة التي لم يجدها إلا في نموذج العائلة والطائفة، محتميا بها ضد الجمهور الأوسع من شعبه. واضطر، أخيرا، عندما اصطدم بثورة ذلك الجمهور إلى الاستنجاد بعصاباتٍ وتدخل قوى إقليمية ودولية، كما حدث ويحدث في سورية واليمن وليبيا. والنظام السوري هنا هو أكثر النماذج دلالةً على تلك المفارقة، إذ نشأ بعد الاستقلال عن فرنسا، نظاما برلمانيا جمهوريا، وأراد له بناة الجمهورية وآباء الاستقلال أن يمضي في طريق
الديمقراطية والازدهار الاقتصادي الذي سجل له التاريخ محطاتٍ واضحة، لكن سرعان ما أخذته الانقلابات العسكرية، ثم العصبوية الأسدية إلى نظامٍ، هو في واقعه أكثر ملكيةً من نظم الملكية الأخرى، مع عتاد مسلح بخطاب الأيديولوجيا القومية والممانعة الزائفة، فالأبوية المعلنة في النموذج الجمهوري الأسدي بدأت مع شيوع خطاب الأب القائد، وتعزّزت بالتوريث للرئاسة، ثم تمديدها المستمر، وانتهت إلى تهجير السكان غير المفيدين، واستجلاب غيرهم، فأفصحت بذلك عن طبيعة النموذج الجمهوري المتعيّن، وعن عودته الواقعية إلى تقليدية اجتماعية قبلية، كان ابن خلدون قد رسم دورتها التاريخية التكرارية سابقا، وأماط اللثام عنها هشام شرابي قبل أكثر من ثلاثين عاما، في كتابه "النظام الأبوي وإشكالية تخلف المجتمع العربي" بقوله "مهما كانت مظاهر الدولة العربية حديثة، فإن بناها الداخلية متجذّرة في القيم الأبوية وعلاقات القربى والعشيرة والطائفة والجماعة العرقية". وبذلك تكون مكونات نموذج الدولة العربية الأبوية بصورتها التقليدية (ممالك وإمارات) أو المحدّثة (جمهوريات الأبوية المعاصرة) أكثر طبيعيةً من مكونات باقي الدول التي عرفها التاريخ البشري.
هكذا، فإن الجمهوريات العربية المعاصرة، غير القادرة على التحوّل إلى نظم جمهورية بالفعل، ستبقى قلقة ومتردّدة، بل وستشهد فترات انفجارية بين هوية الماضي الأبوي وهوية العصر المواطنية. وسيدفعها ذلك ضرورة، وبغض النظر عن الرغبات أو الأوهام، وما تستلزمه من خطابات مقاومة أو ممانعة، سيدفعها إلى الذوبان، وأقله إلى الصراع والتفتّت، ما لم تمتلك شعوبها وأنظمتها إرادة الخروج من كل أنماط الأبوية إلى رحابة التاريخ والعصر.
لماذا، وكيف حدث ذلك، وهل كانت عوامل التماسك الاجتماعي والضبط في الأخيرة أقوى من الأولى؟ بينما معروفٌ لكل متابع أن تلك العوامل كانت أشدّ ما تكون عليه في نظم الجمهوريات العربية، بالمقارنة مع غيرها، لكن ذلك لم يمنعها من الانفجار وتوالي الصراعات، بل على العكس، كانت تلك العوامل دافعةً لها وتسببت بالثورة على النظام برمته، كما حدث في سورية وليبيا على الأقل، وفي ظل مناخ الربيع العربي الذي أحاط بالجميع أيضا. أم هو الاستثناء العربي، مرة أخرى، الذي ما زال يمنع تحوّل الجمهوريات العربية إلى جمهورياتٍ ديمقراطيةٍ، تنتمي إلى اسمها وعصرها بالفعل؟ في حين أن جماهير تلك الدول ما زالت تخرج في كل مكان، مطالبةً بحقوقها وحرّياتها وبمكانتها الإنسانية في العصر والتاريخ، بينما أنظمتها الجمهورية ما زالت قلقة، ومتردّدة بين نموذجي الملكية (وأبويتها) والجمهورية الديمقراطية المنتمية حقا إلى شعبها ومواطنيها. ولذلك شاهدنا انحياز جمهوريات عربية (سورية الأسد وعراق صدّام وليبيا القذافي) إلى عصبيته الاجتماعية الضيقة التي لم يجدها إلا في نموذج العائلة والطائفة، محتميا بها ضد الجمهور الأوسع من شعبه. واضطر، أخيرا، عندما اصطدم بثورة ذلك الجمهور إلى الاستنجاد بعصاباتٍ وتدخل قوى إقليمية ودولية، كما حدث ويحدث في سورية واليمن وليبيا. والنظام السوري هنا هو أكثر النماذج دلالةً على تلك المفارقة، إذ نشأ بعد الاستقلال عن فرنسا، نظاما برلمانيا جمهوريا، وأراد له بناة الجمهورية وآباء الاستقلال أن يمضي في طريق
هكذا، فإن الجمهوريات العربية المعاصرة، غير القادرة على التحوّل إلى نظم جمهورية بالفعل، ستبقى قلقة ومتردّدة، بل وستشهد فترات انفجارية بين هوية الماضي الأبوي وهوية العصر المواطنية. وسيدفعها ذلك ضرورة، وبغض النظر عن الرغبات أو الأوهام، وما تستلزمه من خطابات مقاومة أو ممانعة، سيدفعها إلى الذوبان، وأقله إلى الصراع والتفتّت، ما لم تمتلك شعوبها وأنظمتها إرادة الخروج من كل أنماط الأبوية إلى رحابة التاريخ والعصر.