مراسلو الحروب.. على بعد 500 متر من "داعش"

26 ديسمبر 2016
(قناصة يستهدفون مراسلًا في معلولا، تصوير: أنور عمرو)
+ الخط -

عرف المشهد الإعلامي العربي في السنوات الأخيرة، وتزامنًا مع كثافة الأحداث في منطقتنا العربية، بزوغ نجم عدد هام من الصحافيين الشباب الذين تركوا بصمتهم في المشهد الإعلامي، وسجّلوا حضورهم كمراسلين، في أكثر مناطق النّزاع خطرًا على الإطلاق في العصر الحديث، في ليبيا وسورية والعراق واليمن، بالإضافة إلى فلسطين، حيث كانت التغطية الصّحافية في حدّ ذاتها في أماكن التوتّر، قصّة وخبرًا ووجهة نظر، وكانت للصحافيين الشباب حصّة الأسد في تأريخ هذه الحقبة الدّامية عبر القلم والعدسة.

ومما لا شكّ فيه أن العمل في مناطق النّزاع مغرٍ جدًا لمن يمتلك الشجاعة، وفي روحه توق للتّميّز، بغضّ النّظر عن موقف الصّحافي الشخصي من الأحداث الدّائرة، والذي قد يكون الدّافع الأوّل له انتصارًا لقضيّة عادلة من وجهة نظره. وقد تكون رقمًا بين مئات الصحافيين الذين ينقلون الخبر والمعلومة في بلد يشهد استقرارًا، لكنّك ستكون أحد القليلين الذين ينقلون للعالم ما يحصل من أحداث إذا ما كنت في بلد مُصنّف كإحدى الدّول التي لا يُنصح بزيارتها، ما يجعل وجودك في مكان الحدث سبقًا دائمًا.

دقمة دقمة
أحمد خليفة، مُراسل قناة الجزيرة في ليبيا، يُواجه خلال أداء عمله صعوبات كثيرة، من بينها ارتفاع حالات الاختطاف أو التصفية، الأمر الذي يدفعه إلى التنقل الحذر والمقيد في كل الأحوال، بحيث يكون أحيانًا تنقلًا مدروسًا ومحدودًا في آن واحد.

يقول أحمد إن صعوبات العمل الميداني خاصّة في نقاط الاشتباك والتوتر المُسلّح هي الأكثر إرهاقًا على الإطلاق، حيث ترتفع وتيرة الإحساس بالخوف، وترقّب الموت في أي لحظة، فقد يكون الصحافي ضحيّة رصاصة قناص أو قذيفة هاون عشوائية، أوعبوة ناسفة.

ويُتابع راويًا لـ"جيل" تفاصيل إحدى أكثر اللحظات التي بقيت عالقة في ذهنه: "مرّة كنت أغطي اشتباكًا عنيفًا جدًا في مدينة سرت بين قوّات البنيان المرصوص ومسلحّي تنظيم الدولة، وكانت هناك مقاومة عنيفة من مسلحي التنظيم الذين كانوا ينشرون قناصتهم في كل مكان، وكانت الدبابة تقصف بالقرب منا، والطائرة الحربية تحلّق فوقنا، وفجأة بدأ مقاتلو البنيان المرصوص يصرخون (دقمة دقمة)، وهي السيارة المفخخة التي يقودها انتحاري بالعامية الليبية، وإذا بها تتّجه نحونا بسرعة جنونية، وهنا أحسست بأنها النهاية فعلًا، ولكنها انفجرت وتناثرت شظاياها قبل وصولها إلينا، بعد أن تمكّن أحد المقاتلين من تفجيرها بقذيفة مدفعية".

لشدّة خطورة الأوضاع، عادة ما يتّخذ الصّحافي تدابير إضافية في إطار عمله اليومي، فهو يحرص على أن يكون مصحوبًا بحرس شخصي، كما تكون هنالك خطط جاهزة للانسحاب أو الهروب من مكان ما في حال الشعور بالخطأ أو الريبة، وعادة ما يكون التحرّك خلال العمل الميداني مدروسًا، فلا مكان للعشوائية أو الارتجال، وما أن يتم تحقيق الهدف من المهمّة تتم المغادرة بلا مماطلة.

من بين أكبر الرّهانات وأعقدها في مناطق النّزاع والتي تعترض الصّحافي، هي القدرة على توفير المعلومة الصّحيحة والدّقيقة في ظلّ تضارب المعلومات وتداخل الموضوعي بالدّعائي، فتتداخل الرّوايات والأرقام وأحيانًا كثيرة تتضارب في ما بينها، وهو ما يُؤكّده أحمد، الذي يتابع قائلًا: "ما أعمد إليه في مثل هذه الحالات – وبعد اكتساب الخبرة - هو عرض وجهات النظر المختلفة وسردها بشكل واقعي بعيدًا عن التهويل الذي تقع فيه وسائل الإعلام المحليّة بشكل مستمر، علاوة على محاولتنا التقريب بين وجهات النظر المختلفة وفقًا لواقع المشهد السياسي والأمني الليبي الذي نفهمه جيّدًا ولا تخفى علينا تفاصيله الدقيقة جدًا في الكثير من الأحيان".


بين رصاص الأعداء
في مناطق النّزاع، لا حصانة لأحد، ولا حتّى لرجال السّلطة الرّابعة، وهو ما تُؤكّده تقارير منظمة مراسلون بلا حدود التي كشفت أن عدد الصحافيين الذين قتلوا سنة 2015 بلغ 110 صحافيين لدوافع غير واضحة، من بينهم 67 على الأقل جرى استهدافهم بسبب عملهم أو أثناء تغطيتهم أحداثًا، ليصل بذلك إجمالي الصحافيين الذين قتلوا بسبب عملهم في مهنة الصحافة منذ عام 2005 إلى 787.

"في سورية، أنت مُستهدف دائمًا، سواء برصاص القناصة أو القصف المدفعي أو القصف الجوي، وبمجرّد دخولك للأراضي السورية فأنت بالضّرورة هدف محتمل، باعتبار أن القصف يشمل المدنيين أيضًا، ولا يُفرّق بينهم وبين المُسلّحين"، يقول محمد ميستو، مُراسل وكالة الأناضول في سورية.

إجراءات السلامة التي يتخذها الصحافي قبل توجّهه إلى أماكن التوتّر، يلخّصها ميستو في عدد من الخطوات، منها أنه يحرص دائمًا على أن يكون برفقته أحد أبناء المنطقة التي يقصدها بهدف التغطية الصّحافية، لأنه سيكون الأقدر على تخيّر أسلم الطّرق لسلكها، مع تعدّد الجبهات والتغيير المُتواصل والدّائم لخارطة الانتشار العسكري فيها، مشيرًا إلى أن عملية الدّخول إلى مناطق الاشتباك دائمًا ما تكون محدودة الزمان والمكان، فما أن تتمّ عمليّة التصوير أو أخذ التصريحات تتم المغادرة مُباشرة.

ويروي المتحدّث لـ"جيل"، أن أكثر المهمّات التي بقيت عالقة في ذهنه، هو انتقاله من ريف حلب الغربي إلى ريفها الشمالي، في تحرّك هو أقرب للجنون، حسب وصفه، باعتبار أنه كان يتحرّك في مساحة مُحاطة بالقوات الكردية التابعة للـPKK يمينًا، وقوّات النظام الأسدي يسارًا بالإضافة إلى قوّات "داعش" بينهما، والكل متربّص ومستعد لقنص أي شيء يتحرّك.

الوصول إلى أماكن التغطية لا يكون سهلًا في الغالب، فهو يحتاج إلى صبر وترقب والاستعانة بأشخاص للتنقل في أماكن محدّدة، لكن الصحافي يجد نفسه أحيانًا مجبرًا على مواصلة الطريق لوحده، معتمدًا على خبرته وتجاربه السابقة. يتابع مراسل وكالة الأناضول: "وصلنا إلى بلدة مارع، والتي كانت بمثابة جبهة مفتوحة مع داعش، ما جعل المدينة خالية إلا من الأبنية وسط ظلمة حالكة. وصادف أن كان السائق غريبًا عن المدينة ليطلعنا لاحقًا أنه أضاع الطريق، ما اضطرّنا للانتظار في الأراضي الزّراعية إلى حين وصول شخص دلّنا على طريق الوصول إلى الجبهة، ونجد أنفسنا في أرض مفتوحة تفصلها عن مكان تمركز داعش ما لا يزيد عن 500 متر فقط".

ويذكر المتحدّث أنه خلال وجودهم على خط الجبهة، كانت قذائف الهاون تسقط بين الفينة والأخرى على مسافات غير بعيدة، وكان هدف المهمة أخذ تصريح من أحد القادة الميدانيين، وبعد إتمام العمل، اضطر الفريق للانتظار مدّة طويلة إلى حين وصول سيارة لتقلهم إلى خارج المدينة.

ربّما لا تعبّر المشاهد التي ينقلها التلفزيون عن حجم المخاطر التي يتعرّض لها الصحافي، قد يبدو للمشاهد أحيَانًا أن إجراء حوار لا يتطلب أكثر من محاورة الشخص المطلوب، هنا، يوضّح ميستو: "كان هاجسنا الأكبر هو أن يتسلّل عناصر داعش نحونا، وهو أسلوبهم المُفضّل ليلًا، كانت ساعات انتظار وترقب طويلة، وكانت المهمّة الأكثر إثارة للقلق على الإطلاق".

المساهمون