كان لعالم الفيزياء ألبيرت أينشتاين (1879 - 1955) مراسلات مع عدّة شخصيات في الأدب والسياسة والفلسفة، منها ما هو مشهور؛ مثل مراسلاته مع الشاعر الهندي طاغور والرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت.
في عام 1931، قام "معهد التعاون الفكري"، بدعوة أينشتاين إلى محاوَرة يتبادل فيها الأفكار حول السياسة والسلام مع مفكّر آخر يختاره بنفسه، فاختار الطبيب النفسي النمساوي سيغموند فرويد (1856 - 1939)، لأنه "يجمع بين صفات الحكم النقدي والجدية والمسؤولية".
تبادل الاثنان مراسلات ناقشا فيها الطبيعة البشرية والطرق المحتملة للتقليل من العنف في العالم. من المفارقات أن هذه المراسلات نُشرت في دفتر بعنوان "لماذا الحرب؟"، عام 1933، بعد أن وصل هتلر إلى السلطة، ولم يُطبَع منه وقتها إلّا ألفا نسخة، وقد ضاعت معظمها في الحرب. لاحقاً، جُمعت المراسلات وأعيد طبعها في مطلع الستينيات، وقد نقلها إلى العربية نادر كاظمي وصدرت مؤخّراً عن دار "تكوين" وبالشراكة مع دار "الرافدين".
في رسالته الأولى، يرى أينشتاين أن الطريق الإيجابي الوحيد للمُضيّ قدماً اليوم هو إنشاء "رابطة حرّة لرجال يُقدّم عملهم وإنجازاتهم السابقة ضماناً لقدرتهم ونزاهتهم"، ويرى أنه يتعيّن على أعضاء هذه الرابطة العالمية البقاء على اتصال من خلال تبادل الآراء المستمر، لكي تكتسب تأثيراً أخلاقياً مهماً وقادراً على حل المشاكل السياسية.
يؤكّد أينشتاين أن الرابطة ستظل تجمّعاً يعاني من جميع العيوب التي أدّت في كثير من الأحيان إلى الانحطاط بسبب عيوب راسخة في الطبيعة البشرية. لكنه يضيف متسائلاً: "مع ذلك، ألا ينبغي لنا أن نبذل على الأقل محاولة لتشكيل مثل هذا الارتباط على الرغم من جميع المخاطر؟ يبدو لي أنه واجب حتمي".
في أول رسالة يردّ فيها فرويد على أينشتاين، يطرح نظريته عن المسار التطوّري للعنف، ويختلف مع العالم الألماني في نقطة المنطلق، ففي حين يقترح الأخير السلطةَ والصواب، يقترح فرويد: العنف والصواب، معتبراً أن ثمّة تناقضاً واضحاً يعيشه العالم بين الحق والعنف، وأن حل تضارب المصالح بين البشر، من حيث المبدأ، يجري حلّه من خلال اللجوء إلى العنف.
ومع ظهور الأسلحة، بدأت العقول المتفوّقة بالإطاحة بالقوّة الوحشية، لكن موضوع الصراع ظلّ كما هو: كان من المفروض أن يحدّ أحد الأطراف من الآخر، ويجري تحقيق هذه النهاية بشكل أكثر فاعلية عندما يجري طرد الخصم، وبعبارة أخرى قتله.
يكاد الاثنان يتّفقان، في مراسلاتهما، على ضرورة وجود شبكة تتحوّل بشكل كلّي إلى حكم القانون ونبذ العنف، لكن ما يحدث أن هذه الشبكة يجري كسرها باستمرار والعودة إلى العنف. المراسلات مليئة بالأفكار حول عنف الفرد وعنف الجماعة وعنف السلطة، أفكارٌ تبدو مثل كرات "بينغ بونغ" بين عالم الفيزياء وعالم النفس، تصيب هدفها أحياناً وتخطئه أحياناً، وتعود إلى اللعب من جديد.