مدينة هويان: قلب كل آسيا

17 فبراير 2016
عمارة سكنية تقليدية في مدينة هويان (Getty)
+ الخط -
800 كلم نقطعها على الساحل الفيتنامي انطلاقاً من هوتشي، إلى الجنوب باتجاه الوسط. رحلة مُثقلة بحضور الطبيعة المبهر. نمشي والماء يحيطنا من كل الاتجاهات. على يميننا، البحر المزيّن بالهضاب الخضراء. وعلى يسارنا، سهول الأرزّ والجبال المترامية بغاباتها الاستوائية. يبدو شجر جوز الهند أنيس المسافات، ونحن نجتاز النهر تلو الآخر لنصل إلى مدينة هويان التاريخية. مدينة تنتظر زائريها، وهي تتمدد بتضاريسها المتنوعة بين نهرٍ وبحر. تضاريس تختفي في الوسط لصالح السهوب، التي يواظب الفلاحون على تمشيطها كل صباح.


لهويان أسماء عدّة، "مدينة السلام”، واحد من الأسماء المُحبَّبة لدى السكان المحليين، أو "فاي فو" في اللغة الفيتنامية. أطلق اليابانيون، الذين خلّفوا العديد من الآثار في المدينة، عليها اسم "قلب كل آسيا”، وذلك نظراً لأهمية هذه المدينة التجارية في البحر الصيني. لا بل ذهبت المعتقدات لدى اليابانيين، إلى أنّ التنين ينام تحت أرض هويان. كل هذه الأسماء قليلة على مدينة مثلها. يمكن إضافة الاسم الذي تراه مناسباً، كمدينة المصابيح الملوّنة مثلاً، تلك التي تُبهر الناس بغياب الشمس. أوتمكن تسميتها المدينة الترابية التي تصطبغ بلون الأوكر.

 كل الأسماء مقبولة، بيد أن اسمها يبقى فراغاً يملؤه العابرون بالدهشة. حسناً، ممكن أن نسمّيها مدينة "الدهشة"، فقد تحسب نفسك طفلاً تفتّحت عيناه هنا ليتعلم الأشياء ومسمّياتها من جديد، ويمنح المعاني لمدينة، كالمرأة التي لا تبالي بترهات المارّة لشدّة جمالها.


إقرأ أيضاً: المائدة اليمنية.. عادات مختلفة تحكمها الجغرافيا

المدينة القديمة المغلقة بوجه السيارات، تستريح من الضوضاء على ضفة نهر ثوبون، الذي يحملها في الليل حيث ترخي بظلالها عليه. يحمل النهر مراكب الصيّادين في النهار، ومراكب العشّاق في الليل، لا بل يحمل أمنياتنا التي نبتاعها على شكل شمعة مضاءة في علبة ورقية، نضعها في النهر لتعوم صوب محقّق الأمنيات. تتكدّس جميع الأمنيات في النهر، تلك العائدة لتجار القرون الماضية، وتلك الأمنيات التي يطلقها الوافدون من كل حدبٍ وصوب. لقد تمرّست المدينة بأمنياتنا منذ أن كانت ميناء تجارياً ناشطاً بين القرنين الخامس عشر والتاسع عشر. هذا الميناء، الذي صدّر البضائع إلى مختلف أرجاء العالم، فكان الخزف الفيتنامي يصل من خلالها إلى سيناء في مصر خلال القرن الثامن عشر.


"للمدينة القديمة ربٌ يحميها". هذا ما يطالعك به الراسخون في علم التاريخ. بعد أن انتصر الإمبراطور جيا لونغ ورسّخ حكمه، منح الفرنسيين امتيازات حصرية في مجال التجارة، بحيث استحدِثَ لهم ميناء خاصاً في مدينة دانانغ المجاورة لهويان. لقد تم نسيان المدينة لمئتي عام بفعل هذا التحوّل. هذا النسيان، كان كفيلاً بحمايتها وحماية عمارتها الفريدة من براثن التطوُّر.

بقيت المدينة محافظة على تفرُّدها حتى تم تصنيفها من قبل منظمة الأونيسكو في العام 1985، كإرث ثقافي وطني يخضع لقوانين هذا التصنيف. هويان مدينة تدير ظهرها للنهر المسالم وتدير وجهها الأصفر لزائرين دفعوا ثمن دخولهم الذي يعود ريعه، لحماية هذا الإرث وسكانه المحليين.


ما زالت هويان تحتفظ بأثر كل من مرّ عليها، لا سيّما الصينيون واليابانيون والأوروبيون أيضاً. تحمل هوية فريدة تمتاز بها عن سائر المدن الفيتنامية، وتنعكس تلك الهوية على مطبخها وحرفها وفنونها. لكل متجر ومنزل شجرة بوغنفيلية أو “المجنونة"، تتسلق البناء وتمنحه مظهراً لائقاً أمام الضيوف المبهورين الذين لا يفوِّتون أي فرصة لالتقاط الصور في أرجاء مدينة، تخالها استديو مجهّزاً لتصوير أفلام رومنسية. أو في أقل تقدير، مدينة تتبرّج مرتين في اليوم، مرّة عندما تقف على مرآة النهر وتضع أصفر الشفاه، ومرّة ثانية، عندما تتكحّل ليلاً على مرآة المطر المستريح في شوارعها، فتضع ألواناً خافتة تليق بالحاضرين.


في إحدى ليالي هويان، كان المطر يباغت رغبات الناس ويحاول عبثاً أن يحدّ من حركتهم التي تنتظم على وقع الموسيقى التي اختارتها المدينة لذلك المساء. فكما الموسيقى مجانية للعموم في الشوارع، كذلك خدمات الإنترنت التي تتيح للناس فرصة الاستفادة منها في الشارع. كل شيء هنا للعموم، لا سيما البهجة المتحصّلة على وجوه الآسيويين، وعيونهم نصف المغلقة فوق وجنتين مرتفعتين تسطّرهما ابتسامة. إنها مدينة الدماثة التي تدفعك عند مغادرتها لذرف دمعتين أو أكثر. يعاند المطر ويستمر في الهطول، حتى إن حبيباته تنساب بين مشاعرنا المزدحمة، ويحرّك سيقان البامبو ليتمايل ويحجب الضوء بحركة متقطعة، بحركة لا تعرفها سوى الغانيات.
بدا لنا مكان أزرق وسط المطر، يخالف في شكله معالم المدينة الصفراء.

إنه استراحة غير اعتيادية، إنه "بيت الشاي". لقد علقنا على ما يبدو هنا بين الأصفر الترابي لجدران المدينة، وبين زرقة سماوية لجدران البيت. لقد علقنا بين الأرض والسماء، في مكان يديره الصمت.
نعم يديره الصمت. تخرج فتاة وكأنها وسامة متنقلة تدعونا بالإشارة للدخول ونحن نبحث عن أي كلمة، نبحث عن أي ثرثرة أو إيقاع، فلم نجد سوى بيت، ترتفع أعمدته الخشبية لتوفّر فضاء شاهقاً. يبدو لنا أنه معبد لشدة الصمت ورائحة بخور الصندل وسماحة وجوه الفتيات العاملات فيه. ترتفع لافتة بجانب الفتاة، التي دعتنا للدخول، مكتوب عليها: "استمتع بالصمت". لا أحد يتكلم هنا، فجميع العاملات من الصم والبكم. نحن الثرثاران الوحيدان نهمس لبعضنا كلاماً لا لزوم له. نكتب للنادلة: شاي بالياسمين، شاي اللوتس، رقاقات جوز الهند المجففة. هذا السطر الوحيد اللازم من الكلام.


يعمل المكان على إيقاع واحد مؤلف من ضوضاء الهمس، وصوت نقرات النعال على أرضيته الخشبية، وصوت احتكاك الآواني الخزفية. يندر الكلام هنا، وبين إشارات الفتيات وابتساماتهن نفقد التواصل. الألوان والروائح الطيّبة لغة متكاملة في مكان تنضب فيه المجازات والاستعارات والتورية وكل قواعد الصرف والنحو وتندثر النقاط والفواصل.

إقرأ أيضاً:(صور)أكثر مدن العالم برداً:الحرارة تتجاوز 71 درجة تحت الصفر
المساهمون